لكن البشرية عانت طوال عهود طويلة من انتشار أفكار وتصورات نالت من الكرامة الإنسانية بطريقة جارحة وقاسية على خلفيات أيديولوجية مستمدة من أديان أو مذاهب أو أعراق أو أيديولوجيات متطرّفة.
وقد وصل انتهاك الكرامة إلى مداه مع من يؤمنون بحتميات أيديولوجية لأسباب بيولوجية، مثل النازيين والفاشيين الذين زعموا أن عرقهم أرقى من بقية الأعراق، وحاولوا أن يقدّموا أدلة علمية على هذا تعود إلى التكوين الوراثى الذى تحمله الجينات، مما لا يقبل التغيير.
ولا تزال هناك رؤى وتصورات عنصرية تحط من شأن البعض على خلفيات الانتماءات الأولية أو الطبيعية، لكن البشر يكافحون على الدوام من أجل إنهاء هذه المشاعر وتلك السلوكيات البغيضة.
وعلى وجه العموم، فإننا لا يمكن أن نطرح مسألة الكرامة الإنسانية بمعزل عن السياق الاجتماعى الذى يحيط بالفرد، ويعمل فيه، فاحترام هذه الكرامة أو انتهاكها يعتمد فى جانب كبير منه على القواعد العامة المرعية للسلوك فى أى مجتمع.
ولا يمكن فصل ما تحمله الجماعة من قيم وما يبدر عنها من تصرّف عن الوضع السياسى القائم، وذلك من منطلق أن السلطة يجب عليها أن تحرس الفضائل الاجتماعية وتعمل بجد على مقاومة الرذائل، أو الحد منها عبر توظيف القانون، وتشجيع الخطاب الدينى الذى يحض على الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى.
إلا أن رشد السلطة وعقلانيتها ليس هو العامل الوحيد المسئول عن حفظ كرامة الأشخاص، فالجماعة نفسها عليها واجب كبير فى هذا الشأن.
فقبل أن يكون هناك احترام لحقوق الأشخاص، يجب أن يتوافر حس بالترابط الاجتماعى مع هؤلاء الذين نعترف بحقوقهم، ونُؤمن بضرورة أن يعيشوا حياة تليق بآدميتهم، باعتبارهم بشراً مثلنا.
وهنا يأتى دور مؤسسات المجتمع المدنى والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان لتُساند شروط الاحترام الفعّال للحقوق الإنسانية.
ولا يكتفى البشر بعيش الحياة، لكنهم يجدون أنفسهم فى حاجة ماسة إلى تقييم وجودهم، وتحديد ما إذا كانوا يحيون حياة كريمة أم حياة بشعة رخيصة، وهم دوماً يسعون إلى الحكم على قيمة الأهداف التى يسعون لتحقيقها، والغايات العريضة الكامنة وراء ما ينهضون به من أفعال.
ويريد البشر دوماً معرفة ما إذا كان مسلكهم حسناً أم رديئاً، منصفاً أم ظالماً، معقولاً أم ينطوى على حماقة وجنون، لأنهم يريدون تبرئة ساحتهم فى نظر أنفسهم أولاً، ويتيقنون أن أسلوب المعيشة الذى اختاروه يتصف بالخيرية، ويتم على أساس صائب أخلاقياً.
ويقود الشعور بالكرامة إلى ميلاد اتجاهات وقيم سياسية إيجابية، لا غنى عنها لأى مشروع وطنى يقوم على الممانعة والمقاومة، فهذه القيم وتلك الاتجاهات والتوجّهات تُحصّن الإنسان نفسياً وعقلياً ضد العناصر التى تعمل على تآكل روحه وتداعى قدرته على الصمود، وهى تسهم بطريقة جلية وملموسة فى صُنع الإطار العام الذى يحكم نظرة الإنسان إلى الأمور، وحكمه على المواقف والأحداث والشخصيات والأفكار.
وكلما كان هذا الإطار متماسكاً منيعاً، تضاعفت إمكانيات التصدى لـ«الآخر المُعادى»، سواء كان العدوان متجسّداً فى جيوش وعروش، أو مُتمثلاً فى أفكار ورؤى، أو متضمّناً فى استراتيجيات وخطط وحيل ومكائد.
ونكمل غداً.