(1) رجلان كبيرا السن دخلا غرفة الكشف، سلمت عليهما، قال أحدهما: شقيقي الأكبر يعاني من بعض الأمراض الجلدية ويعاني من الزهايمر ويهرش بشدة في عدة مناطق، أخذتني رعدة داخلية حينما علمت أنه مصاب بالزهايمر فقد سلم علىَّ بطريقة عادية مُبتسماً ودوداً، فحصته وقلت لشقيقه: تحية لزوجته التي تهتم به هذا الاهتمام، قال الشقيق الأصغر: ليست له زوجة، قلت: هل ماتت: قال كلا إنه لم يتزوج أبداً، قلت: من يهتم به هذا الاهتمام، ملابسه جيدة ونظيفة، ويلبس بامبرز جديد، وهيئته حسنة، قال: أنا الذي أقوم برعايته من الألف إلى الياء، أغسل له ملابسه، أُجهز له طعامه، أمكث معه بالأيام ولا أتركه إلا نادراً، خاصة أنني على المعاش، فهو في السبعين وأنا جاوزت الستين.
قلت: وهل تترك زوجتك وأولادك كل هذه الأيام؟، قال: نعم، فهو يحتاج إلىَّ في كل لحظة، وأولادي كبار يعتمدون على أنفسهم، وأذهب إليهم مرتين في الأسبوع فقط، ولا أريد أن أجعلهم يتحمّلون مسئولية شقيقي الأكبر. وقفت مذهولاً من كلام الشقيق الأصغر، قلت هذه أول مرة أجد شقيقاً يفعل هذا مع شقيقه، يمكن أن تقوم بذلك زوجته أو ابنته أو شقيقته، أما ما أراه الآن فهو ملحمة نادرة من العطاء والوفاء، قال ببساطة: لقد اعتدت على ذلك، وهو كما ترى لا ينقصه شىء.
وجدت الأخ الكبير مستسلماً هادئاً لا يكاد يفهم مما نقول شيئاً، أو هو يفهمه ولكنه لم يعلق على كلام شقيقه، أعجبتني عزيمة وجدية هذا الشقيق الذي قام على حياة شقيقه المريض بكل تفاصليها، حينها تذكرت أستاذنا الصديق الجميل أ.د. أمل توفيق عبقري الأمراض العصبية والنفسية في الصعيد وعضو لجنة ترقيات الأساتذة، والذي لن أنسى أبداً كلمة قالها لي «إننى أدعو الله صباح مساء أن يعافيني من مرضين عضالين الزهايمر والسرطان»، تأملت هذه الحكمة العظيمة من عالم وطبيب عظيم أفنى حياته في علاج الزهايمر، فظللت أُردد بقلبى ولساني هذا الدعاء ضمن أدعية أخرى كلها تصب حول عافية الدين والدنيا والآخرة.
(2) جاءتني سيدة تظهر عليها كل علامات الانكسار، وما أدراك ما الانكسار الذي عمّ شرائح كثيرة من الشعب المصري، وأكثرهم من الانكسار الاجتماعي والاقتصادي. كانت تحمل طفلة صغيرة يلف أصابع إحدى يديها شاش معقّم، فحصت حالتها الجلدية، ثم قلت لها: مرضك من الحزن الشديد، قالت: وأىّ حزن ومصيبة أعمق من مصيبتي، تأمل هذه الطفلة الصغيرة، ضربها أبوها بالسكين في أصابعها حتى تمزق أحد أصابع اليد، مكثت في المستشفى الميري «الجامعي» أسبوعاً، ثم قرّروا بتر الإصبع.
قلت: وهل هناك أب يفعل ذلك مع ابنته؟ قالت: زوجي مريض نفسي، تنتابه نوبات من الصراخ والهياج والاعتداء على من حوله، خاصة من لا ظهر لهم ولا سند، وهم بالطبع أنا وأولاده وفي كل حالة هياج نفسي تحدث كارثة، ففي يوم من الأيام طلبت منه مصاريف للبيت فهاج وماج وأخذ سكيناً وغرزها في بطنه حتى خرجت أمعاؤه وأجرى جراحه كبرى في المستشفى الميري، ولم أجد بُداً في النهاية سوى الطلاق منه.
قلت: وكيف تتزوجين مثل هذا الرجل؟ قالت: كنت يتيمة وصغيرة ومتعلمة، وقام خالي بتزويجي بهذا الرجل، وكان قد جاوز الخمسين، وكنت أحسن الظن بخالى ولا أعرف عن زوجي شيئاً حتى وقعت الكارثة، ووجدت نفسي أعيش مع ثور هائج، لا عقل ولا قلب له. سرحت بخواطري حول أهمية الطب النفسي في المجتمع المصري الذي أصبحت نسب الأمراض النفسية فيه تعادل أو تزيد على المجتمعات الأوروبية، بما طرأ على المجتمع المصري من صعوبات اقتصادية كثيرة ومظالم اجتماعية أكثر.
قلت لها: وكيف تدبرين حياتك الآن؟ قالت: لا شىء سوى مساعدات الأسخياء والعمل في تنظيف الشقق ومسح السلالم، ولكن يعوقني عن العمل أن زوجي أورث ابني الأكبر زيادة الكهرباء في المخ وفرط الحركة بلا هدف، وأنا أذهب به من مستشفى مجاني إلى آخر، وهو الآن في مدرسة دمج، والصغرى أصبحت لديها عاهة مستديمة، وأنا أحارب على مائة جبهة، لأن خالي ظلمني، ليتخلص من أي عبء في زواجي، فألقاني في جنهم الحمراء. أكاد أجزم من كثرة ما عاينت أن أزمة المجتمع المصري الأولى هي المظالم الاجتماعية.