المبدأ المستقر فى علم التخطيط الاستراتيجى وعلوم الإدارة الحديثة هو أن «ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته.. وما لا يمكن إدارته لا يمكن تطويره». وتنتسب هذه العبارة إلى «بيتر دراكر» أبرز علماء الإدارة فى العصر الحديث. وهكذا نشأت «مؤشرات الأداء الرئيسية» (KPI)، التى تقيس أداء الأشخاص والمؤسسات.
وقد كانت بداية نشأة مؤشرات الأداء مرتبطة بالقطاع الخاص، حيث لجأت الشركات فى قياس أدائها إلى استخدام مجموعة من المؤشرات القابلة للقياس الكمى. وتُستخدم هذه المقاييس لتحديد التقدّم الذى تُحرزه الشركة فى تحقيق أهدافها الاستراتيجية والتشغيلية، ومقارنة الأداء المالى لها مع الشركات المماثلة فى ذات المجال. ثم تطور الأمر، فأصبحت مؤشرات الأداء تقيس أداء الجهات الحكومية وغير الربحية.
وقد أوقفت هذه المؤشرات سيل الانتقادات الفارغة. فقد كان كل نقد يُفسّر كتجريح، وكل ملاحظة تفسر كانتقائية، وكل لوم يفسّر كتعريض بالسُّمعة، وهكذا، حتى جاءت مؤشرات الأداء التى باتت أيقونة التخطيط الإدارى المعاصر، وفى الوقت نفسه صارت مؤشرات «أداء» موضوعية لمن لم يقم بواجبه على أكمل وجه.
ومع دخول الرياضة عالم الاحتراف، لا سيما مع بداية القرن الحادى والعشرين، أدت أموال البث التليفزيونى والرعاية إلى تحويل كرة القدم وغيرها من الرياضات الأكثر شعبية إلى صناعة تقدّر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، بما جعل الفوز بالمباريات والبطولات والمنافسات مطلباً ضرورياً أكثر من أى وقت مضى.
إذ بدأت الفرق التى تتطلع إلى الفوز بالألقاب، تعرف جيداً أن أصغر كتلة من البيانات يمكن أن تُحدث فرقاً بين النجاح والفشل. لذا نجد أن العلاقة بين التكنولوجيا ورياضة كرة القدم قد تطورت بشكل كبير فى السنوات الأخيرة، حيث أصبح علم تحليل البيانات جزءاً لا يتجزّأ من اللعبة، وبحيث يستخدم تحليل البيانات بصورة أساسية لجمع كميات كبيرة من البيانات المتعلقة بحركة اللاعب وأدائه من خلال استخدام الكثير من مؤشرات الأداء.
وهكذا بدأ لاعبو كرة القدم المحترفون فى استخدام البيانات فى مفاوضات العقود الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال، وفى شهر أبريل 2021، وخلال محادثات تمديد عقده مع نادى مانشستر سيتى، أحدث لاعب كرة القدم البلجيكى، كيفن دى بروين، ثورة فى أساليب التفاوض على العقود من خلال تقديم تحليل مفصّل لإحصائياته.
إذ ظهر الدولى البلجيكى أمام مسئولى مانشستر سيتى، متسلحاً بتقارير مفصّلة عن إحصائياته التى حدّدت مساهمته فى فريق بيب جوارديولا ودوره فى مطاردة الألقاب. واستنجد النجم البلجيكى بمزودى البيانات التحليلية لتحديد قيمته السوقية والراتب الذى يجب أن يتقاضاه. وأجرى المفاوضات دون وكيل، ولكن بوجود محامين، ليتوصل فى نهاية الأمر إلى تجديد عقده حتى 30 يونيو عام 2025م. وبفضل هذه الاستراتيجية، استطاع دى بروين انتزاع أعلى راتب للاعب فى البريميرليج آنذاك، ومقداره أربعمائة ألف جنيه إسترلينى، أى ما يعادل 464 ألف يورو أسبوعياً.
ومنذ ذلك الحين، انتشر هذا الأسلوب على نطاق واسع، وأصبحت شركات الإحصاءات والأرقام الرياضية تشهد زيادة فى البيانات المقدّمة من الوسطاء أو وكلاء اللاعبين. وقال مسئول تنفيذى فى أحد أندية النخبة فى إنجلترا إن «استخدام البيانات يتزايد، لأن اللاعبين أصبحوا أكثر ذكاء، ومن النادر أن تقدّم الشركات إحصاءات لا نعرفها بالفعل». وتكيّفت الأندية أيضاً مع انفجار المواقع الإحصائية التى تمتلك حالياً الكثير من المراقبين والإحصائيين الذين يجمعون البيانات الدقيقة حول اللاعبين والمدربين والأندية والمنتخبات.
ومع ذلك، ورغم اعتماده على الإحصائيات فى المحادثات الرامية لتجديد عقده فى شهر أبريل 2021، فإن لاعب مانشستر سيتى والمنتخب البلجيكى لكرة القدم «كيفن دى بروين» أدلى مؤخراً بأحد التصريحات المهمة، حيث قال: «أعتقد أن إحصائية دقة التمرير هى أكثر إحصائية ليس لها قيمة.. يمكننى أن أحقق 96% تمريراً صحيحاً بالتمرير الجانبى أو الخلفى بدون إظهار خطورة.. هذا سيعنى أننى لم أقدم أى شىء.. ما الهدف منها؟ وهنا تأتى أهمية أن يكون جزءاً من تمريرات لاعبى الوسط أمامية، وتستهدف كسر الخطوط، وتكون مجازفة لأقصى درجة.
إن نسبة الخطأ ستزيد بلا جدال مع تزايد المخاطرة، لكن إمكانية صناعة الخطورة ستكون حاضرة وستتزايد مع كل محاولة، وبالتالى سيتسبّب هذا عاجلاً أو آجلاً فى تسجيل هدف. مهم جداً أن لاعب الوسط تكون تمريراته مؤثرة، فليس من الضرورى أن تصنع فرصاً، لكن على الأقل تُسهم فى امتلاك الفريق للكرة فى مناطق متقدّمة، حتى لو كان من شأن ذلك أن يؤدى إلى انخفاض نسبة الدقة فى التمرير. ففى المقابل، ستزيد إمكانية الوصول إلى مناطق متقدّمة أكثر. ومن ثم، إذا جاء لك أحد الأشخاص، قائلاً إن نسبة التمريرات الصحيحة لأحد اللاعبين بلغت نسبة المائة فى المائة، فينبغى أن يكون الرد عليه بالسؤال عن عدد التمريرات الأمامية منها، لأن هذه التمريرات وحدها التى تكون قادرة على صُنع الحدث. نعم، ليس من الضرورى أن تكون كل التمريرات أمامية. ولكن على الأقل ينبغى أن تُشكل التمريرات الأمامية جزءاً لا بأس به من التمريرات التى يقوم بها اللاعب خلال المباراة. إذ من المؤكد أن اللاعب سيحتاج التمريرات الجانبية والخلفية فى عمليات التحضير وإعادة تدوير الكرة لاستمرارية الحيازة».
ومن هنا، تأتى أهمية علم تحليل البيانات، منظوراً إليه باعتباره العلم الذى يجمع بين الأدوات والأساليب والتكنولوجيا للوصول إلى معلومات ذات مغزى من خلال البيانات. ففى عالم اليوم، لا توجد مشكلة كبيرة فى الحصول على البيانات، إذ تتوافر البيانات بوفرة كبيرة لدى المنظمات الحديثة، وتنتشر الأجهزة التى يمكنها جمع المعلومات وتخزينها تلقائياً. وتجمع الأنظمة وبوابات الدفع عبر الإنترنت كماً كبيراً من البيانات فى مجالات التجارة الإلكترونية والطب والمال وكل أوجه الحياة البشرية الأخرى. وكذلك تتوافر لدينا بيانات من النصوص والأصوات ومقاطع الفيديو والصور بكميات هائلة. ولكن، المهم هو أن يتم تحليل هذه البيانات على النحو الصحيح، بما يقود فى نهاية المطاف إلى استخراج رؤى هادفة للأعمال.