فرق كبير بين أن يلحق بك أحدهم ضرراً ويسلبك حقاً ويمعن في طغيانه وشره المطلق المدعوم من قبل آخرين يقفون معه ضدك، فتعد العدة للتعامل معه بحكمة ومنطق وتواجهه بناء على خطة محكمة تضع نصيب عينيها حسابات المكسب والخسارة، ولا تعرضك ومن حولك لأضرار كبرى، وبين أن تستيقظ ذات صباح من نومك فتقرر أن تدق جرس بابه، وما أن يفتح بابه حتى تقذفه بطوبة في وجهه "وتطلع تجري"، ثم تنتظر أن يأتي الأهل والجيران والأصدقاء لإنقاذك وتخليصك منه.
أتابع فيديوهات النازحين منذ يوم الثامن من أكتوبر الماضي 2023، وأتوقف عندها كثيراً. أكبر الصور، وأدقق في الوجوه، وأحاول أن أستشف مشاعرهم. في البداية كنت أدقق في فيديوهات النازحين في غزة، ومعها بالطبع مشاهد وعدادات القتل والتفجير والتدمير والتشريد، وأسأل نفسي: يا ترى هل تعي هذه الآلاف أن ما يخوضونه من إبادة وتشريد يجري باسم القضية ونصرتها؟
لا أشكك في النوايا. أشكك في النتائج. وأشكك في حجم المكاسب مقارنة بالخسائر. وأشكك في القدرة على التخطيط والتدبير. والأهم من كل ما سبق، أسأل عن موقف ورأي "أبطال" المشهد في العمل الذي وجدوا أنفسهم فيه. هل هم راضون؟ سعداء؟ تعساء؟ قادرون على رؤية "الخير الوفير" الذي يقولون إنه سينجم عما يجري على المدى الطويل؟ عاجزون عن رؤية أو تقييم الغد لأن فرص بقائهم أحياء اليوم تتعادل واحتمالات موتهم؟ غاية القول، يا ترى ما موقف أهل غزة وأهل لبنان، ولن أتطرق إلى بقية الأهالي في مناطق الوكلاء مثل اليمن والعراق وسوريا وغيرها، مما يجري لهم باسمهم؟!
كل وجهات النظر يجب أن تٌحترم، لكن حين تمعن وتغرق في بناء قصور شاهقة على رمال متحركة، هنا يجدر بك أن تتمهل وتتفكر، وحبذا لو تتوقف تماماً.
لم تتوقف عملية السابع من أكتوبر عند حدود "عملية فدائية" تعقبها ردود انفعالية غاضبة. توسعت وتمددت وتحولت إلى حرب تتوافر لها كل عوامل الاشتعال الذاتي والإحماء الداخلي برعاية السكوت الدولي فيما يتعلق بالمدنيين العرب العزل والدعم اللانهائي لإسرائيل.
ولمن كان يسأل على مدار عام مضى عن احتمالات تمدد الحرب أو توسعها لتشمل المنطقة، فالإجابة هي أن الحرب تمددت بالفعل. حتى دول المنطقة التي لا تشهد أعمالاً عسكرية أو قتالية، فقد تأثرت بدرجات متفاوتة، والقول مفتوح للمزيد.
ونضيف بيتاً للقصيدة، ونقول إن ما يبدو واضحاً حتى الآن هو أن السابع من أكتوبر خدم إسرائيل خدمة العمر. صحيح إن النتائج النهائية لم تتضح بعد، ونأمل أن تنقلب الآية، وتسير الأمور لصالح القضية، والتي لم تعد بالمناسبة "القضية الفلسطينية" بقدر ما أصبحت قضية فلسطينية وإضافات خاصة بوكلاء واجتهادات تتعلق بمصالح دول كبرى ونصف كبرى، لكن الوضع الحالي يعيدنا إلى المشاهد التي بدأت بها هذه السطور. إنها مشاهد ملايين النازحين، وآلاف القتلى والمصابين والمشردين، ناهيك عن خراب البنى التحتية وغيرها.
إسرائيل وجدت فيما جرى فرصة ذهبية لإعادة تشكيل المنطقة وقف رؤاها المدعومة من القوة العظمى في العالم. ولا أرى فيما يفعله الاحتلال من توسيع لرقعة الحرب وفتح الجبهة اللبنانية، وهي التوسعة التي تم تقديمها لإسرائيل على طبق من فضة، دفاعاً عن النفس أو استعراضاً للقوة أو غطرسة تستقوى بالغرب، بقدر ما هي صراع مع الزمن لإعادة رسم خريطة المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ولولا الحرج، لقدمت إسرائيل ووكلائها، وكذلك من يعتقدون أن دق جرس باب العدو وإلقاء طوبة في وجهه ثم يجري بأقصى سرعة عملاً عظيماً ونصراً مبيناً، الشكر الجزيل والامتنان الكبير.
البعض يرى في هذا الكلام تقليلاً من شأن "المقاومة" وتنقيصاً من أهمية "الجهاد". لكن حين تسفر "المقاومة" عن آلاف القتلى والمصابين وتهجير الملايين وتخريب بنى تحتية بالمليارات، مع تفتيت المنطقة أكثر مما هي مفتتة، فإن هذا يستوجب مراجعة الحسابات. وحين يؤدي "الجهاد" إلى إتاحة الفرصة لإسرائيل لمزيد من البطش والعدوان، فإنه يكون جهاداً عكسياً.
هناك من يعتنق مبدأ "آهو أي تنغيص على إسرائيل وخلاص" أو "مش أحسن ما تقعد مكتوفي الأيدي؟!" مثل هذه المبادئ يمكن أن تطبق في "حوش المدرسة" حين يتعارك الأطفال وهم يلعبون الحجلة، لكن حين يؤدي هذا العراك إلى مجازر، فإن الأمر يختلف.
حفظ الله مصر وأدام علينا نعمة الوطن رغم المصاعب الاقتصادية الكبرى، والأمن رغم الأهوال من حولنا، بل والقدرة على الاختلاف في الآراء والمواقف دون أن نقتل بعضنا البعض.
ملحوظة أخيرة، أحيي من قلبي وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو والقائمين على مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية، أولاً على الاستمرار في إقامة المهرجان وثانياً على تكريم الرائعة فريدة فهمي. مواجهة قوى الظلام وغرابيب التشدد وإعادة مصر إلى بهائها قبل أن تتمكن منها الغمامة الفكرية والثقافية تحتاج إلى التوسع في مثل هذه الفعاليات وجعلها جماهيرية عن حق.