التجربة تقول إن المال مثّل الشغل الشاغل لكل من تولى أمر مصر بعد الفتح العربي لها، فقد توقف «ابن تغرى بردى»، صاحب كتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، أمام خَرَاج مصر، وكيف كان يتآكل ويقل عند الانتقال من حقبة زمنية إلى أخرى، فقد كان أيام عزيز مصر -في زمن يوسف عليه السلام- يقترب من 100 مليون دينار ذهب (100 ألف ألف دينار)، وجباه عمرو بن العاص 12 مليون دينار، وانخفض فى عصر أحمد بن طولون إلى 4 ملايين دينار، وواصل الانخفاض فى العصر الفاطمى فوصل فى عهد القائد جوهر إلى 3 ملايين دينار.
لا تجد الشعب حاضراً فى المساحات التى تتناول «دخل مصر» أو ما تدره من ذهب على مدار العام، إلا فى لحظات الدفع، فهو دائماً حاضر وظاهر فى حالات الجباية وتحصيل الضرائب، التى كانت تحصل أسبوعياً فى أحوال، وشهرياً فى أحوال، وسنوياً فى أحوال، وتجده حاضراً أيضاً فى حالات الانهيار المعيشى، حين يؤدى إفقار الناس عن طريق استنفاد ما فى جيوبهم من أجل زيادة حجم الخراج إلى السقوط فى فخ المجاعات، مثلما حدث فى زمن المستنصر بالله الفاطمى.
شهدت مصر نموذجاً للكيفية التى كان يعتصر بها واحد من الولاة المتعسفين جيوب البسطاء من أبناء الشعب فى صدر العصر العربى، وهو عبدالله بن سعد بن أبى سرح. وكان واحداً ممن غضب النبى صلى الله عليه وسلم عليهم وأهدر دمهم، بعد أن أساء إليه، ويقال إن النبى عفا عنه بعد فتح مكة، وهو شقيق عثمان بن عفان فى الرضاعة.
حين أصبح «ابن أبى سرح» والياً على مصر اتجه إلى إرهاق المصريين بالضرائب، حتى تمكن من جمع ضعف المبلغ الذى كان يورده عمرو بن العاص، ثم عاد به إلى الخليفة عثمان بن عفان، فرح الخليفة بالطبع بهذا الإنجاز، وامتدح كفاءة «ابن أبى سرح» -شقيقه فى الرضاعة- واتجه إلى عمرو بن العاص بالقول: «إن اللقاح بمصر درت ألبانها»، فرد عليه عمرو: «ذلك لأنكم أعجفتم أولادها».
عمرو بن العاص كان يريد الاحتفاظ بقدرة المصريين على الدفع المنتظم، وبالتالى كان يتعمد عدم الضغط على الناس بصورة توقفهم عن الإنتاج، ويحرص على أن يترك فى أيديهم ما يعينهم على الحياة حتى يتمكنوا من مواصلة الزراعة والحصد، بعبارة أخرى كان «ابن العاص» يفكر فى المستقبل وهو يجمع المال للحاضر، أما عبدالله بن أبى سرح فكان غشوماً يريد أن يثبت وجوده فى اللحظة الحاضرة، ولا يهم المستقبل، لذلك رد عمرو بن العاص على الخليفة رداً حكيماً أفهمه فيه أنه ربما فاز بخراج مضاعف هذا العام، لكنه فى العام القادم لن يحصل على شىء، لأن الناس لن تستطيع أن تنتج شيئاً، لأن الإنتاج الذى لا تتوافر أدواته لا بد أن يتوقف.