هناك وجه آخر للتذكر، تعرضه لنا رواية «على يمين القلب» للكاتبة الفلسطينية ليالى بدر، فى مواضع ومقاطع عدة، حيث تستدعى الكثير من الأحداث، ابتداءً من حالة التعايش التى كانت بين الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين واليهود فى البداية، قبل أن تشرع العصابات الصهيونية فى إفساد كل شىء.
تقول عن التفاهم بين جدها المسلم وجدتها اليهودية: «يحترم جدى عادات زوجته، فلا يدعها تطبخ أيام السبت ويشاركها الاحتفال فى أعيادها الدينية، كما تشاركه هى فى احتفالاته الإسلامية». وتحكى لها عمتها عن صديقتها راشيل، التى كانت تحزن حين تعرف أن اليهود يقتلون العرب، وكانت تدعو عليهم من قلبها.
تحكى عمتها وتبكى لحرمانها من صديقتها «التى لم تعد تستطيع أن تتحدث عنها، إذ ليس من المناسب أن تصرح بحبها لامرأة من شعب العدو».
هنا يثار التساؤل: كيف تبدل الأمر؟ إن كتب التاريخ والسياسة، وآلاف المقالات الصحفية، تزخر بالإجابات، لكن الرواية/ السيرة هنا تخرج من عباءة هذه المواقف التسجيلية، واللغة التقريرية، لتصور لنا هذا التغير، من خلال موقف نابض بالمعانى، حيث تقول: «أتذكر ملامح وجه جدتى القاسية، حزن أزلى يسكن وجهها.
لم تعانقنى، كانت صامتة بلا تعبير، قبلتنى وأنزلتنى ماما. سألت نفسى كثيراً فيما بعد: لم لا تحبنى جدتى؟ كيف تحمل هذه القسوة. كان علىَّ أن أحفر فى ذكريات مَن حولى بدأب كبير، لأعرف الحقيقة.
نبش ما دُفن ليس محبباً لأحد، لكننى قررت أن أكثر الحديث عن أسرار عائلة ماما الخفية»، ثم تخبرنا عن السبب: «حدث الشرخ الكبير فى العائلة عندما هاجمت عصابات الهاجانا الفلسطينيين فى بيوتهم وقراهم، وصد الفدائيون الفلسطينيون عدوان مَن أسكنوهم فى أرضهم، فانقلبوا ضدهم».
وانقسمت العائلة بفعل قرار تقسيم فلسطين الذى أصدره مجلس الأمن: «لم تستطع جويا ولا أولادها الصغار الذين اصطحبتهم معها العودة إلى زوجها وبناتها فى الشيخ جراح، وبقيت نصف عائلة أمى فى القدس الغربية، والنصف الثانى فى الشرقية، وانقسمت العائلة».
يتغير كل شىء فى حياة الطفلة غرام بعد 1948، فيلاحَق الفلسطينيون، ويمنعون من الحفاظ على همزات الوصل بينهم وبين العرب، ما يتجلى فى قول بطلة الرواية: «بابا يقول إن علينا خفض صوت الراديو وإغلاق الأبواب جيداً، حتى لا يعرف المخبرون أننا نستمع سراً لخطب عبدالناصر، وتعليقات أحمد سعيد، وأغانى عبدالحليم وشادية وشريفة فاضل، وفوازير رمضان (ألف ليلة وليلة) وأغنية (وطنى حبيبى) التى حفظناها.
كنت أصغر من أن أفهم ماذا يقول «عبدالناصر»، لكننى ما زلت أتذكر كلمات مثل الوحدة والعرب والحرية. كانت أختى الكبرى تضع صور «عبدالناصر» تحت زجاج الكومودينو الملاصق لسريرها، صورة بطوله الكامل، وأخرى وهو يزرع شجرة، وواحدة لوجهه فقط».
ولا تنسى من طفولتها ذلك الرجل الأشعث الأغبر الذى كان يجوب الشوارع ويقول «باعوها» ويعنى أن العرب قد باعوا فلسطين، ولذا أطلق عليه الأطفال اسم «باعوها». هو أكثر ما بقى فى ذاكرتها، لأن كل مكابداتها فيما بعد دارت حول هذه الكلمة، حيرتها وغربتها ولهفتها، وحلم العودة الذى لا يموت.
يمكن أن يبدأ الحلم فى هذا العمل، الذى يتهادى فى لغة طيعة ومشاهد متتابعة تروض فيه الزمن ليكون فى خدمة السرد ذهاباً وإياباً، عبر آلية الاسترجاع والاستباق، من قول أبيها، حين كان عليه أن يهرب من هجوم القوات الإسرائيلية: «لن أكرر ما فعلناه عندما دخل اليهود عام 1948، لن أغادر بيتى».
لكنه يضطر فى النهاية إلى الخروج، بعد أن يسمع كيف اغتصب الجنود بنات العائلات، وهو لديه من البنات كثيرات. إنه خروج المضطر الذى ينفجر فى قلب غرام أسى ووحشة، فتقول عن رحلتهم إلى عمَّان: «فى سيارتنا السلحفاة كانت بداية الغربة الحقيقية، والرحلة الكبرى لى ولأبناء فلسطين.
كنت أتطلع خلفى، إلى الوطن الذى قد لا أراه بعد اليوم». ولا يفارقها هذا الإحساس وهى تقتلع إلى مكان آخر، وذلك أثناء التوجه إلى الكويت، فتقول: «لم يتوارد لأذهاننا أننا بمواجهة رحلة اغتراب لا تنتهى».
فى الغربة الثانية لا تتنازل «غرام» عن حلم العودة «كنت وصديقاتى نحمل حلم العودة والتحرير». وفى غمار حلمها تمسك بالنضال، فانضمت إلى حركة تحرير فلسطين (فتح)، ثم (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، وكانت تحلم أن تكون فدائية، وتطلب من أبيها أن يفى بوعده لها بالانضمام إلى الفدائيين الذين تتصورهم «ملائكة بأجنحة مضيئة، يواجهون الدبابات الإسرائيلية بصدور عارية، ويصدونها عن مسارها».
ومع معركة الكرامة 1968 يتجدد الحلم، بل يكبر، فتقول عن هذه الأيام: «بدأت إشعاعات من الأمل تدخل نفوسنا، مع تسرب أحلام بأن هناك إمكانية للعودة لبيوتنا فى الوطن».
ولأن العودة لا تتهادى سريعاً، وليست فى متناول اليد، يصنع الفلسطينيون دوماً فى غربتهم وطناً بديلاً، تصفه هى قائلة: «اختار أغلب الفلسطينيين الذين هاجروا إلى الكويت الانعزال عن المجتمع الكويتى، والتقوقع فى مجتمع فلسطينى خاص بهم. تمسكوا بعاداتهم وتقاليدهم. نقلوا القدس ونابلس وطولكرم وجنين وسلفيت إلى الكويت. تمسكوا بطقوس أعراسهم وأحزانهم وأكلهم وأغانيهم، لأنهم رأوا أنها طريق العودة إلى الوطن. بشكل ما رفضوا حاضرهم وتمسكوا بماضيهم، وعانوا بسكون وقهر منتظرين على هامش المجتمع».
وداخل هذا المجتمع الخاص «لم يكن للفلسطينيين خيار فى غربتهم سوى التفوق»، فهو واحد من أسباب التمكن، الذى يعززون به ذخيرتهم البشرية، التى تمد الباقين فى الأرض المحتلة والشتات بأسباب العيش، انتظاراً ليوم يعودون فيه.