تخوض إسرائيل، راهناً، عدداً من الحروب المختلفة على جبهات عدة، وبينما يُمكن تصنيف عدوانها على غزة ولبنان بأنه نوع من الحرب «اللامتماثلة» Asymmetric Warfare، التى يخوضها جيش نظامى ضد مجموعات «مقاومة» أو «ميليشيات» تنتهج أساليب «حرب العصابات»، فإن حربها مع إيران تُعد حرباً نظامية، وإن كانت مقتصرة حتى اللحظة على القصف المتبادل عبر الأجواء.
فالحروب ليست صنفاً واحداً، لكنها أشكال وأصناف، وقد سعى الباحثون والمتخصصون فى علومها إلى تصنيفها وفرزها وفق طبيعتها المتغيرة، ومن بين تصنيفات الحرب التى تعتمدها المعاهد والأكاديميات المتخصصة تبرز «الحرب اللامتماثلة»، كأحد أعقد مفاهيم الحرب، وأكثرها تأثيراً فى الوقت الحالى.
يشير استعراض تاريخ الصراعات والحروب إلى أن «اللا تماثل» ظل أحد أهم عناصر كسب المعارك عبر التاريخ، ولا يمكن إدراك فكرة «اللا تماثل» فى الصراعات المسلحة إلا بتخيل مشهد جيش نظامى يصطف مع مدرعاته ودباباته وطائراته، فى مواجهة جماعة من المقاتلين المجهولين، الذين يتمركزون بين السكان، قبل أن يشنوا الهجمات الخاطفة ضد هذا الجيش، ثم يختفون ليعيدوا الكرة مرات ومرات.
يختلف كثيرون فى منشأ مصطلح «الحرب اللامتماثلة»، لكن يبدو أن أول تعبير متماسك عنها ورد فى بحث نشره «أندرو ماك» فى دورية «السياسات العالمية»، فى العام 1975، وهو بحث ناقش الميزة النسبية التى تمتلكها الجماعات غير النظامية المقاتلة فى مواجهة الجيوش الكبيرة والمنظمة تنظيماً جيداً.
واستناداً إلى ذلك، يؤكد المحلل الاستراتيجى الأمريكى «وليام ليند» على مفهوم «اللا مركزية» فيما يتعلق بـ«الحرب اللامتماثلة»، فيصفها بأنها «صراع يتميز بعدم المركزية وعدم التماثل بين الأسس والعناصر المتحاربة».
ويتمثل مفهوم «عدم المركزية»، فى مقاربة «ليند»، فى وضعية التمركز واختيار الجبهة، أما عدم التماثل فيتعلق بالمعدات والأسلحة المستخدمة.
وتختلف «الحرب اللامتماثلة» عن الحروب التقليدية فى عدد من العناصر؛ منها الجبهة التى تبدو فى «الحرب اللامتماثلة» واسعة ومتعددة، على عكس الحروب التقليدية، التى يتم تعيين الجبهة فيها بإحداثيات دقيقة. ومن تلك العناصر أيضاً عنصر التوقيت؛ فغالباً ما تقع الحرب التقليدية فى فترة زمنية محددة، حيث يصعب جداً تمديد زمن الحرب لأن تكلفتها عالية، لكن «الحرب اللامتماثلة» ليس لها توقيت معين؛ إذ يمكن أن تستمر لعقد كامل.
وبحسب هذا التأصيل، فإن الحرب «اللامتماثلة» تمنح التنظيمات الأقل من الدولة، مثل «حزب الله» اللبنانى أو حركة «حماس»، ميزة كبرى؛ إذ تجعلها أكثر قدرة على الحركة وتوجيه الضربات المؤثرة للعدو، الذى سيبدو مرتبكاً فى مواجهتها، بسبب عدم تهيئة قواته النظامية لنسق حروب العصابات، والعمل فى بيئات سكانية معادية، والتورط فى حروب الشوارع، وصعوبة التعامل مع الاستهدافات فى ظل وجود المدنيين.
لقد ظلت تلك المعادلة ناجحة وقابلة لتحقيق قدر من «الإنجاز» أو «الثبات» فى مواجهة العدوان الإسرائيلى فى منازلات عديدة؛ مثلما حدث فى لبنان عام 2006، وفى الاشتباكات التى جرت على الجبهة ذاتها مع «حزب الله» منذ تلك الحرب، والتى جرى معظمها ضمن قواعد اشتباك حظيت بقدر من الاعتبار، أو فى عدد من حروب غزة السابقة، التى اندلعت فى السنوات 2008 و2012 و2014 و2021 و2022.
لكن الحرب الراهنة شهدت، حتى اللحظة، ما يمكن اعتباره نجاحاً إسرائيلياً فى تخطى الميزة النسبية للقوى «غير المتماثلة»، وهو أمر ستكون له عواقب خطيرة، ليس على المدنيين الذين يدفعون الثمن الأكبر من أرواحهم، ولا الدول التى تجرى الحرب على أراضيها وتتكبد بسببها الخسائر الفادحة فى سيادتها وأمنها واقتصادها وبناها الأساسية، ولكن أيضاً على فكرة التوازن والردع المستند إلى ميزة «اللا تماثل»، والتى يمكن أن تخسرها قوى المواجهة.
وما فعلته إسرائيل ببساطة هو تجريد القوى «اللامتماثلة» من أهم ميزات «لا تماثلها»؛ عندما لم تقم وزناً لأرواح المدنيين، واستغلت التواطؤ والتشجيع الغربى المبطن والإفلات من المحاسبة، فى تحويل الأهداف المدنية إلى أهداف عسكرية من دون أى تكلفة.
وإضافة إلى ذلك، يبدو أن إسرائيل نجحت أيضاً فى تطوير أدواتها العسكرية للتوافق مع مقتضيات هذا النوع من الحروب، وقد كانت هجمات «البيجر»، وعمليات «القتل المستهدف» للقادة، وضربات الصواريخ المركزة، وسيلتها لتجاوز عوائق الحرب النظامية ضد الجماعات غير النظامية.
طورت إسرائيل أيضاً أساليب عمل الحرب النفسية وتكنيكات الاستخبارات التى تعتمدها، واستطاعت عبر نشاط مُكثف وواسع أن تُربك البيئة الحاضنة للجماعات غير النظامية التى تقاتلها، وقسمت هذه البيئة بوضوح فى أحيان عديدة، وبالتالى استفادت من سيل من المعلومات والممارسات التى سهلت لها عدوانها.
ويمكن القول إن إسرائيل كسرت قواعد كثيرة فى بيئة «الحرب اللامتماثلة» التى تواجهها، وجردت أعداءها من الكثير من ميزات «اللا تماثل»، وهى تفعل ذلك مستفيدة من غطاء سميك جنبها المساءلة والمحاسبة عن كثير من الجرائم التى ترتكبها، وبدعم غير محدود من حليفها الأمريكى.
سيدعو ذلك الجبهة التى تواجه إسرائيل عسكرياً إلى التفكير فى إعادة صياغة استجابتها للصراع، وسيشير أيضاً إلى أن الدولة الوطنية، والتوافق الوطنى على أهداف التحرر أو إحداث التوازن مع الأعداء، ركيزتان أساسيتان للصمود فى المواجهة، وتحقيق الأهداف الوطنية.