لم يحدث من قبل أن دخلت «دولة» في مواجهة غاشمة ومباشرة وصريحة مع منظمة أممية، غير آبهة بالقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية والأعراف البشرية، كما تفعل إسرائيل، ولم يطرأ على البال من قبل أن تتحدى «دولة» الكيان الأممى الذى يمثل الغالبية المطلقة من دول الأرض وتخرق قواعده وتضرب بقوانينه عرض الحائط، بل وتبادره بالعدوان والقصف والمصادرة، بينما تقف الدول الكبرى والممول لهذا الكيان الأممى، إما مكتوفة الأيدى أو مغمضة الأعين أو تسد الآذان.
تاريخ منظمة الأمم المتحدة يحتوى على حالات خرقت فيها دولة قراراً، أو تجاهلت نصاً، أو غضت الطرف عن قانون. لكن اعتبار المنظمة برمتها عدواً، فيُعلَن أمينها العام «شخصاً غير مرغوب فيه»، وتستهدف قوات إحدى منظماتها وهى «يونيفيل» أو «قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان» غير مرة، وتصادر أموال وممتلكات منظمة أخرى وهى «أونروا» أو «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأدنى»، وعدم اتخاذ أية خطوات دولية عقابية أو رادعة، فهذا عجيب.
حتى سابق الاحتقانات بين إسرائيل ووكالات ومنظمات الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية، من منع مسئولة أممية حقوقية من الحصول على تأشيرة لزيارة الأراضى الفلسطينية المحتلة، أو عدم السماح لمسئولين من الاتحاد الأوروبى بالدخول إلى غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر وغيرها لم يصل إلى درجة العداء الصريح والعدوان المباشر الحاليين، هى حالة تستحق الدراسة والتحليل، قبل أن يجرى توثيقها فى كتب التاريخ، وعلى ذكر التاريخ، يبقى تاريخ ومسيرة المؤسسات الإعلامية الأجنبية التى توجه برامج أو محطات أو صحفاً أو مواقع لشعوب غير شعوبها بلغاتها أمراً يستحق التأمل.
كذلك تطور المحتوى الموجه للشعوب «الصديقة» أو «العدوة»، ومدى تطابقه أو اختلافه عما يقدّم على المنصات الأم، مسألة أجدها مسلية للغاية. يظن البعض أن ما تقدمه وسائل إعلام غربية مثلاً على منصاتها التى تنشر أو تبث باللغة العربية هو صورة طبق الأصل مما تقدمه من محتوى بلغاتها الأصلية لشعوبها، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع، وبعيداً عن جدلية إذا ما كانت مهمة أو هدف الإعلام الموجه بلغات أخرى لشعوب أخرى أن يقدم نفس ما يقدمه محلياً، تبقى أهمية الإشارة إلى أن جزءاً غير قليل من المحتوى المقدم بالعربية بارع فى «غسل الأدمغة» وخلق واقع خبرى تحليلى افتراضى لا وجود له إلا على هذه المنصات الموجهة باللغة العربية.
بمعنى آخر، يهيأ للبعض أن ما يتم نشره وبثه من محتوى على منصات غربية مكتوبة أو مذاعة بالعربية، لا سيما ما يظهر تضامناً مطلقاً مع الحق الفلسطينى مثلاً، أو رفضاً مطلقاً لما تقترفه إسرائيل من جرائم، أو ما شابه يعكس بالضرورة المواقف الفعلية لهذه الدول، كما أن هذا التوجه فى المحتوى غالباً يقف على طرف نقيض من المحتوى الموجه للداخل عندهم. أصفه بأنه محتوى موجه يخلق شعوراً كاذباً بأن العالم يقف على قلب رجل واحد مؤيداً للقضية ومناهضاً للعدوان. إنه واقع افتراضى لا يختلف كثيراً عن واقع السوشيال ميديا الافتراضى.
وما دمنا ذكرنا السوشيال ميديا، فإننى أود أن أشير إلى عملية التديين الكاملة التى تلونت بها القضية الفلسطينية، أو فلنقل جزءاً معتبراً منها، بفعل الـ«سوشيال ميديا». إسرائيل لعبت دور البطولة فى تديين الصراع، وكثيرون ابتلعوا الطُّعم. والطعم على الـ«سوشيال ميديا» مثير وجذاب ويأتى بنكهات مختلفة.
لعبت السوشيال ميديا الملتهبة المحتقنة المتأججة المتفجرة دوراً رهيباً فى تجذير تديين القضية. لم تعد القضية الفلسطينية قضية شعب تجرى إبادته -بغض النظر عن خانة الديانة- فى موجات تهدأ حيناً وتتفجر أحياناً، بل قضية مسلمين يتعرضون للقتل والإبادة، ما يستدعى استنفار المسلمين، المسلمين فقط، لمواجهة الخطر الداهم الذى يوجهه لهم، لا اليهود فقط، بل العالم المسيحى أيضاً!!
هذا ما ينضح به الكثير من المنصات على السوشيال ميديا، وتتفاعل معه الملايين، ويجرى إحكام إغلاق الدائرة، دائرة الحرب الدينية.
وتأكد ذلك تماماً بشكل واضح مرتين: الأولى بعد أيام قليلة من العملية التى قامت بها «حماس» فى السابع من أكتوبر، حين قصفت إسرائيل كنيسة الروم الأرثوذكس فى غزة، وهى ثالث أقدم كنيسة فى العالم، ما أدى إلى مقتل ثمانية مواطنين مسيحيين من أهل غزة. وقتها تعجب البعض «سراً» من وجود مسيحيين فلسطينيين من الأصل، لا سيما فى غزة «الإسلامية»، لكن مر الحدث الجلل مرور الكرام مع تواتر الحرب وتصاعدها.
المرة الثانية تحدث حالياً، مع العدوان الإسرائيلى على لبنان، وظهور توليفة الأصوات اللبنانية العربية المتنوعة المنددة بالعدوان والاحتلال الإسرائيلى، ومنها أصوات مسيحية بطبيعة الحال. أوقع هذا البعض من رواد -أو بالأحرى ضحايا السوشيال ميديا وحركات التأسلم وغيرهما- فى حيص بيص.