فى الأسبوع الماضى، بثت ناشطة على أحد مواقع «التواصل الاجتماعى» الرائجة المنشور التالى: «أثبتت الكتابة على وسائل (التواصل الاجتماعى) على مدار أكثر من عام من الإبادة الجماعية عدم فاعليتها.. اخرجوا إلى الشوارع، واحتجوا أمام السفارات الإسرائيلية فى بلدانكم.. اتخذوا إجراءات».
وقد نشرت بعض المواقع الإلكترونية، الداعمة للقضية الفلسطينية، هذا المنشور باحتفاء شديد، مشيرة إلى أنه يعبر بوضوح عن «أهمية أن ينخرط المؤيدون والمتعاطفون مع الشعبين الفلسطينى واللبنانى، والمناهضون للعدوان الإسرائيلى الإجرامى ضد الشعبين العربيين، فى أنشطة ميدانية، للتعبير عن هذا التأييد والتعاطف».
إن هذا المنشور، وما يحمله من فكرة من المؤكد أنها راودت كثيرين، خصوصاً مع تصاعد العدوان الإسرائيلى وتجاوزه للخطوط الحمراء كلها، ربما يفتح المجال لمناقشة دور وسائل «التواصل الاجتماعى» فى مقاربة هذه الأحداث الدراماتيكية، وحدود طاقتها وتأثيرها الفعلى على الأرض.
ومبعث ذلك يعود إلى أن الانتفاضات العربية، التى وقعت فى مستهل العقد الماضى، أغرت العديد من الباحثين والمحللين وأفراد الجمهور، حول العالم، بالاعتقاد أن دور وسائل «التواصل الاجتماعى» حاسم فى صناعة الفورات الجماهيرية، وتغيير السياسات، وربما النظم السياسية نفسها، وهو أمر تبناه كذلك عدد من الساسة والحكومات والتنظيمات المعارضة.
وعندما كانت تلك الانتفاضات فى ذروتها، وقبل أن تنكشف التفاصيل المروعة عن حجم الخسائر البشرية والمادية التى تسببت فيها، ظهرت دراسات عديدة تشير إلى «قدرتها على تحريك الجماهير وصناعة التغيير».
من بين تلك الدراسات دراسة نشرتها مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية للكاتبين شيلون هيملفارب، وسين آدى، تحت عنوان «وسائل الإعلام التى تحرك الملايين»؛ حيث سعى الباحثان الأمريكيان إلى التأكيد على قدرة وسائل «التواصل الاجتماعى» على تعزيز الحراك السياسى، وإشعال الانتفاضات، والضغط على الحكومات، وقد ضربا المثل بما جرى فى تونس، وانتقل على طريقة «الدومينو» إلى مصر، فى عام 2011.
وتذكرا فى هذا الصدد أن صفحة «كلنا خالد سعيد» التى أطلقها ناشطون على «فيس بوك» فى مصر كانت الشرارة التى أشعلت «ثورة يناير»، بعدما انتقل الآلاف من أعضاء تلك الصفحة إلى «ثوار» على الأرض، استطاعوا التعجيل بإطاحة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
يرتاح المحللان الأمريكيان إلى الحسم بأن مواقع «التواصل الاجتماعى» تلعب دوراً بارزاً فى إشعال الاحتجاجات التى تقوم بها جماعات المعارضة ضد الأنظمة، وهما يشيران إلى مثالين ناجحين فى كل من مصر وتونس.
ولاحقاً، بات البحث فى الدور الذى تلعبه تلك الوسائط حيال عمليات التمرد والاحتجاج مجالاً واسعاً وخصباً لعديد الدراسات، وقد نُشرت فى هذا الصدد نتائج بحوث مهمة، أقر معظمها بمدى قدرة هذه الوسائط على ترجمة ما تحويه من نزعات تثوير واحتجاج إلى وقائع ملموسة فى الميادين.
والشاهد أن قدرة هذه الوسائط على المساهمة المؤثرة فى صناعة الرأى العام وتبديل المزاج العمومى ليست محل نقض، لكن التسليم بأن هذه القدرة حاسمة، وبإمكانها وحدها إحداث الأثر المطلوب فى كل الأوقات محل شك كبير.
يحتاج الأمر إلى مراجعة ضرورية فى هذا الصدد، أو على الأقل نريد أن نعرف لماذا لم تنجح التجربة ذاتها فى إيران؟ ولماذا سقط النظام فى ليبيا دون أى دور يذكر لتلك الوسائل؟ ولماذا لم تتكرر المسألة بالتفاصيل ذاتها فى البحرين أو فى تركيا أو فى المغرب؟
ثمة أسئلة أخرى لا بد من طرحها؛ فالواقع السورى الذى بدأ بدور واضح لتلك الوسائل فى تأجيح النزعات الاحتجاجية يبدو وقد انتهى إلى دور سلبى لتلك الوسائل باعتراف الباحثين، بعدما تحولت فى قطاع كبير من ممارساتها إلى آليات للفرز الطائفى والحض على العنف والاستلاب للقوى الخارجية، فى خط معاند تماماً لأى صيغة تحرر وطنى أو عمل ثورى.
وفى مصر، التى قدمت «المثل» فى العقد الماضى على قدرة هذه الوسائل ونفاذيتها السياسية فى ملف التحريض والتثوير، يمكن أن نجد اليوم «مثلاً» آخر على تغير الطريقة التى باتت قطاعات كبيرة من الجمهور تعتمدها فى التعامل مع منشوراتها السياسية.
ومن بين أبرز النتائج التى تتضح ملامحها فى هذا الصدد أن حساس ية الجمهور تجاه فرز المنطقى عن غير المنطقى زادت، وأن الدول والحكومات باتت أكثر انتباهاً لدور تلك الوسائط، وأكثر مساهمة فى المحتوى الذى يُنشر عبرها، وأن تلك الوسائط تحتاج إلى حالة تتصاعد على الأرض، لتستثمرها وتؤججها، بينما تتراجع قدرتها عندما تجتهد لخلق حراك بلا مقومات كافية تدعمه.
ويبدو أن قطاعات كبيرة من الجمهور فى أكثر من بلد عربى تتفاعل بقوة مع الأوضاع المأساوية التى يعيشها الشعبان العربيان فى غزة ولبنان من جراء العدوان الإسرائيلى الإجرامى، لكن هذا التفاعل لا يجد صدى فعلياً على الأرض بشكل يتناسب مع حدته.
وهنا ستظهر الذرائع عن «القمع» و«الاستبداد»، أو حتى عن «العمالة والخيانة»، وهى لن تكون كافية لتسويغ هذا الانقطاع بين ما يكتب ويُبث من جانب، وما يحدث على الأرض من جانب آخر.
لذلك، فثمة ضرورة لإعادة التفكير فى قدرة هذه الوسائط، وقابليتها للاختراق والاختراق المضاد من جهة، ودرس الانتفاضات العربية القاسى، الذى انعكس فى حالة من تحجيم الفعل الجماهيرى، وعدم الاستسلام للنزعات «السوشيالية» من جهة أخرى.