انتقل شكل الصراع والتنافس الإقليمى بين إيران وإسرائيل من مرحلة حروب الظل التى اتخذت أشكالاً متعددة، منها حرب البحر والحروب السيبرانية وعمليات استخباراتية، إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة. فقد شهدت المنطقة على مدار العام جولتين من الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل؛ الأولى فى أبريل الماضى، والأخرى خلال شهر أكتوبر الحالى. مما يطرح السؤال: هل انتهت تلك المرحلة من المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، لاسيما فى تأكيد كل الأطراف الإقليمية والدولية على تخوفهم من أن يؤدى التصعيد الإقليمى إلى حرب إقليمية شاملة وأوسع؟
الإجابة هنا تتوقف على رد فعل طهران، أى هل ستقوم إيران بامتصاص الضربة الإسرائيلية والاكتفاء بتلك المرحلة على أن يعاودوا التصعيد بينهما فى ساحات أخرى، أم ستقوم بالرد؟ وفى حال قامت إيران بالرد بالطبع ستواجه بالرد الإسرائيلى.
وفى الجولة الأخيرة، فى أكتوبر الجارى ضربت القوات الجوية الإسرائيلية عشرات الأهداف فى إيران التى كانت تستخدم لإنتاج الوقود الصلب للصواريخ الباليستية بعيدة المدى كجزء من عملها العسكرى ضد إيران التى أطلقت نحو 180 صاروخاً باليستياً تجاه إسرائيل، وفى حين تأخرت الضربة الإسرائيلية بفعل حسابات إسرائيلية والضغط الأمريكى، لكن كان السياق المصاحب للضربة المنتظرة يكشف عن محاذير أمريكية لإسرائيل بتجنب استهداف المنشآت الإيرانية النووية والنفطية. لذا جاءت الضربة الإسرائيلية محدودة ومقيدة بأهداف عسكرية، ألحقت ضرراً بمعدات متطورة ترتبط بإنتاج الصواريخ الباليستية لا تستطيع إيران إنتاجها بمفردها وكان لا بد من شرائها من الصين.
وبغض النظر عن حدود الضربة الإسرائيلية إلا أنه يمكن القول إنها أرادت تحقيق عدة أهداف، منها قدرة إسرائيل على توجيه ضربات للعمق الإيرانى ولأهداف عسكرية حيوية، فقد اخترقت إسرائيل الأجواء العراقية لتوجيه الضربات لإيران، الأمر الذى تسبب فى شكوى العراق لانتهاك سيادتها. كما حملت تأثيرات تلك الضربة رسالة بقدرة إسرائيل على ضرب البرنامج الصاروخى الإيرانى. انتشرت التقارير الإخبارية التى تتحدث عن قيام إسرائيل بإخبار إيران عبر مصادر عدة بتوقيت الهجوم والأهداف، والتحذير فى ذات الوقت من رد الضربة وإلا كانت هناك ضربات أكثر قوة، كما قامت روسيا بتقديم معلومات لإيران حول الضربة الإسرائيلية، ربما هذا يؤشر إلى أنه كان على إسرائيل القيام بتلك الضربة لموازنة الردع مع إيران خاصة بعد وجود طائرة مسيرة من حزب الله بجانب بيت رئيس الوزراء الإسرائيلى، لكن فى ذات الوقت كان لا بد من إنهاء تلك المرحلة التصعيدية مع اقترب الانتخابات الأمريكية.
ولكن بالنسبة لحسابات طهران، التى اعتادت على مدار العام الماضى التهديد بالرد على الاستهدافات الإسرائيلية مع التردد فى الرد، هل ستقوم بالرد الآن مما يفتح الباب للرد الإسرائيلى القادم أم لن تقوم بالرد وبالتالى تنتهى تلك المرحلة من الضربات المتبادلة؟
بالنسبة لإيران هناك اعتبارات أخرى، لتقرر رد الفعل، مثل تكلفة وفوائد التدابير التى تتحملها، والتداعيات الأمنية الأوسع.
وكما قال المرشد الإيرانى فى خطابه عند تأبين أمين عام حزب الله حسن نصرالله، فإن أى قرار فى القضايا الاستراتيجية لن نتأخر ولن نفسر ولن نتسرع ونصاب بالانفعال.
كرر ما يشابه هذا التصريح بعد الضربة الاسرائيلية الأخيرة، حيث قال على «تويتر»: «لا ينبغى التقليل من أهمية هجوم إسرائيل أو المبالغة فيه»، وأضاف: «يجب أن يكون مسئولونا هم الذين يقيّمون ويفهمون بدقة ما يجب القيام به (لإظهار قوة الشعب الإيرانى للعدو) ويفعلون كل ما هو فى مصلحة هذا البلد والأمة».
وهو معنى يصب فى اتجاه أن حسابات الرد متروكة للمسئولين دون توجيه انتقادات لهم من الرأى العام.
لكن النقطة الأهم هنا هى الإيجابيات التى جاءت بها الضربة الإسرائيلية على إيران، فقد كان الهجوم على القواعد العسكرية الإيرانية قد خلق انطباعاً بأنه سيؤثر على البيئة الاقتصادية لإيران، لكن الدولار والعملات المعدنية انخفضت وتحولت سوق الأسهم إلى اللون الأخضر.
ربما توقعت الأسواق أن يكون مستوى الهجمات أكثر تدميراً بكثير، وأن تشمل مرافق البنية التحتية التى يمكن أن تؤثر على الاقتصاد أيضاً وبعض مصافى النفط، ولكن وفقاً للأحداث، أصبح من الواضح أن قلق السوق من الهجوم الإسرائيلى ليس فى محله والوضع مستقر، ومن ثم فإنه فى حال قامت إيران بالرد سيدفع هذا الأسواق إلى التوتر مرة أخرى، وتسوء المؤشرات الاقتصادية أكثر. لذا ليس من مصلحة النظام الإيرانى الدفع بالأوضاع الاقتصادية للسوء أكثر فى الوقت الحالى، لذا حرص النظام الإيرانى على التقليل من شأن الخسائر والضربة الإسرائيلية لتجنب وضعها فى موقف يجبرها على الرد، ولكن تعمل إيران على ترك الباب مفتوحاً أمام احتمالات الرد، لذا أعلنت أنها تحتفظ بحق الرد للدفاع عن النفس، وهناك تكرار للحديث فى الإعلام عن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وحق الدفاع عن النفس. ويحاول الإعلام الإيرانى تصوير اتفاق بين كل أركان النظام على ضرورة الرد على إسرائيل، فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائى «ستستخدم (إيران) كل الأدوات المتاحة لتقديم رد حاسم وفعال».
ربما تكتفى إيران وفقاً لتلك الحسابات بهذه المرحلة، خاصة أنها هى الأخرى ورغم ضعف قدرات الردع لديها أمام إسرائيل إلا أنها نجحت فى إعادة ترميمه على نحو يثبت إمكانية أنها قادرة على الرد على إسرائيل، وأنها هددت بالانتقام فى حال تم استهداف منشآتها النووية أو النفطية، وهو ما تحاشته إسرائيل نتيجة للضغط الأمريكى تفادياً لتوسيع الصراع مع إيران التى هددت حال المساس بتلك الأهداف وتحاشياً لحدوث اضطرابات فى سوق الطاقة العالمى، لاسيما مع قرب الانتخابات الأمريكية، ولأن إسرائيل قادرة على استئناف استهداف إيران بعد نتائج الانتخابات الأمريكية.
لكن فى كل الأحوال فإن الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران نقلت مرحلة التوترات بينهما إلى شكل جديد من المواجهات حيث انتقلت من الظل إلى العلن مع استئناف حروب الظل فيما بعد، لكن الأهم أن الضربات الصاروخية الإسرائيلية هى غير مسبوقة منذ الحرب العراقية الإيرانية.