الشواهد تؤكد أنها حرب استنزاف. هذه المرة، يستنزف الصراع الفوضوى دولاً وجماعات وجبهات، منها من اختار أن يفجر الصراع دون النظر إلى عواقب التفجير غير المدروس، ومنها من تدفعه الظروف التاريخية والجيوسياسية إلى الانخراط فى المواجهة، ولو بلملمة الشظايا ومحاولة تطويق الآثار.
للمرة المليون، تحليل أو شرح أو حتى نقد ما جرى فى السابع من أكتوبر 2023 وتوابعه لا يعنى عداء للقضية أو تخلياً أو تراجعاً أو كل ما يتم الرشق به من اتهامات سطحية.
وبعيداً عما جرى فى السابع من أكتوبر، يبقى لنا النظر إلى عملية الاستنزاف الماضية قُدماً ومحاولة التعامل معها فى ضوء المتاح.
الاستنزاف هذه المرة ليس حكراً على دولة دون أخرى، أو جماعة مسلحة أكثر من غيرها. الاستنزاف للجميع، بما فى ذلك إسرائيل، وإن كانت سبل تعويض الاستنزاف، وتعويض ما ينجم عنه من خسائر تختلف من دولة إلى أخرى، بحسب موقعها فى التوازنات الدولية وترتيب المصالح ومواقف الدول المنسقة والمخططة لمستقبل المنطقة.
فرق كبير بين أن تحارب وتقاوم وتصارع بحد أدنى من الحسابات لا يُفقدك القليل مما تملك، وبين أن تقاتل وتعارك وتغالب اليوم، «وربنا يحلها» غداً. بالطبع كل الأمور فى يد الله سبحانه وتعالى، لكن حداً أدنى من التخطيط والعقلانية لا يضر.
ومن كان يظن أن قوة إقليمية يُعتد بها مثل إيران ستخرج عن خطها، أو تقلب طاولة توازناتها خارج «السكريبت» المعد سلفاً استجابة لتعقد المشهد أو نجدة للملايين المنكوبة أو غيرهما، فعليه أن يراجع فهمه لـ«السكريبت».
فرق كبير بين أن تكون شجاعاً مقداماً أبياً جسوراً وتمضى قدماً بما تملك من قدرات ومهارات وأدوات، وبين أن تكون متهوراً مخططاً للساعة المقبلة لا لليوم التالى، ومعتمداً فقط على عوامل الجذب الجماهيرى والشعبية الشعبوية حيث البطل المغوار يشبه البطل الهوليوودى الخارق الذى يقفز بين أسطح العمارات، ويتسلق واجهات المبانى، وينقذ البطلة المختطفة فى عرض البحر.
بحر من نوع آخر نجد فيه أنفسنا فى مصر، وهو بحر الصور والتعليقات التى يجرى تداولها على «السوشيال ميديا»، وتحمل الكثير من الموضوعات الموجعة لكثيرين. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر صور هدم مبانٍ ذات طابع معمارى بالغ التميز، ولن أقول أثرية، وذلك لتجنب جدلية هل هى «مسجلة آثار» أم لا!
وكذلك، الصور التى طالعناها عن أسود كوبرى قصر النيل، والتأرجح بين خضوعها لشكل من أشكال «الترميم» أو «الصيانة»، أم طلائها بشكل أزعج الغالبية.
هذا البحر يفرض نفسه علينا، لأنه فرض من فروض السوشيال ميديا والذى يحمل وجهين متناقضين: الأول إيجابى يحذر ويقوم بدور توعوى وربما إنقاذى، والثانى سلبى وينشر معلومات مغلوطة أو حقائق مفبركة.
جزء رئيسى من الوعى والتثقيف والوقاية العنكبوتية يكمن فى معرفة المستخدم بأدوات التحقق من صحة المنشور، وجزء آخر يكمن فى المؤسسات والمسئولين والجهات الرسمية فى الدول التى تناهض الأكاذيب بالمعلومات، وتجهض الفبركة فى مهدها عبر المكاشفة وتداول المعلومات.
الجانب بالغ الإيجابية فى الجدل المثار حول أسود قصر النيل هو أن المواطن المصرى مهتم بإرثه وثروته الجمالية والفنية، يخاف عليها، ويغضب إن مسها سوء.
وهذا فى حد ذاته أمر عظيم، لا سيما أن بيننا أيضاً مساكين مثيرون للشفقة يخشون عودة عصر عبادة الأصنام فيحرمون التماثيل، أو ضحايا التجريف والإهمال فى التعليم والتثقيف على مدار عقود ممن يعتبرون إرث المصريين من الفن والحضارة «كلام فاضى» أو لا يعنى شيئاً مقارنة بأولوية شراء توك توك أو التحايل على القانون وإقامة نصبة شاى على قاعدة التمثال.
الواقع يخبرنا أن قلة قليلة بين مستخدمى السوشيال ميديا فى العالم هم من يبذلون الجهد والوقت للتحقق مما يرد على السوشيال ميديا. ويبقى لدينا طوق النجاة الحقيقى ألا وهو إتاحة المعلومات والمكاشفة من قبَل المسئولين، ففيها النجاة لهم ولنا.
طوق نجاة آخر علمت به خلال زيارتى الحالية لبريطانيا، وهو طوق لجأت إليه الحكومة البريطانية لعله يكون مخرجاً لها من أوضاع اقتصادية صعبة، لكنه الحقيقة من أغرب الأطواق التى سمعت بها.
الخطة الحكومية البريطانية هى إعطاء الملايين من العاطلين عن العمل من أصحاب الأوزان الثقيلة، ممن يُحملون الميزانية أموالاً فى هيئة إعانات بطالة وسكن وعلاج مجانى، حقناً مجانية لخسارة الوزن. الفكرة تضرب ثلاثة عصافير بحقنة واحدة: عودة هؤلاء للعمل بعد خسارة الوزن، تخفيف الضغط على هيئة الخدمات الصحية الوطنية (التأمين الصحى)، إنقاذ الاقتصاد.
وزير الصحة البريطانى ويس تريتنج قال إن «زيادة حجم الخصر تفرض عبئاً كبيراً على خدماتنا الصحية. تكلف هيئة الخدمات الصحية الوطنية 11 مليار جنيه إسترلينى سنوياً، وهو مبلغ أكبر حتى من التدخين، كما أنها تعيق اقتصادنا». وقال إن الأمراض الناجمة عن السمنة تدفع الناس إلى أخذ أربعة أيام مرضية تقريباً سنوياً، والبعض يترك العمل تماماً.