عرف العالم نظام «بريتون وودز» بعد أن اجتمع ممثلو 44 دولة لتطوير النظام النقدى الدولى، فى ولاية «نيوهامبشير» الأمريكية، لمدة 22 يوماً، وخرجوا بهذا النظام الذى يستهدف ضمان استقرار سعر الصرف، ومنع التخفيضات التنافسية، وتعزيز النمو الاقتصادى.
واستقرت الحسابات الدولية العاملة بالدولار الذى يمكن تحويله إلى الذهب بسعر صرف ثابت هو 35 دولاراً للأونصة (تساوى 31 جراماً تقريباً)، والتى كانت قابلة للاسترداد من قبَل حكومة الولايات المتحدة، التى كانت تلتزم بدعم كل دولار فى الخارج بالذهب، واستقرت أسعار صرف العملات الأجنبية مقارنةً بالدولار.
وعندما طالب الرئيس الفرنسى «شارل ديجول» بتحويل 191 مليون دولار أمريكى إلى ما يقابلها من الذهب، عجزت الولايات المتحدة عن تلبية طلبه، وهو ما عجَّل بقرار الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون»، فى مواجهة العالم كله، بإلغاء التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، فيما عُرف لاحقاً باسم «صدمة نيكسون».
فاجأ «نيكسون» العالم فى 15 أغسطس عام 1971 عبر خطاب تليفزيونى معلناً إلغاء التحويل الدولى المباشر من الدولار إلى الذهب، وهو ما يعنى عملياً انهيار نظام «بريتون وودز»، وانتهى الأمر بتمهيد الطريق لاعتماد النظام الحالى لأسعار الصرف العائمة.
وهكذا ظل الدولار الأمريكى مهيمناً على الاقتصاد العالمى على مدى عشرات السنين دون مبرر.
والمثير فى الأمر أن العالم كله قرر التعايش مع «صدمة نيكسون» التى هى فى حقيقتها عملية نصب عالمية غير مسبوقة على مدى التاريخ، بعد أن كان المتوقع -بداهة- أن تتحول الدول الأخرى عن الدولار إلى عملات أخرى، أو استحداث نظام نقدى بديل، لكنها ظلت مجبرة على التعامل بالعملة الأمريكية، بعد أن قامت بتكديس مليارات الدولارات كاحتياطى للنقد الأجنبى، وإن اتخذت أى موقف آخر ستضيع كل احتياطياتها، وتتحول لمجرد أوراق بلا ثمن.
هكذا، تحول الدولار إلى أهم عملة نقدية على مستوى العالم، وصارت جميع الدول مرغمة على التعامل به، ويتم تحديد سعر باقى العملات من خلاله، وهكذا فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها على الاقتصاد العالمى.
قبل ثلاثة أعوام، أشار المحلل الاقتصادى «ديفيد أورن»، فى تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية، إلى أن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمى تمنح الإدارات الأمريكية قدرة لا تُضاهى على فرض عقوبات اقتصادية ضد كل من يخالف سياساتها.
وفى تحقيق لمجلة «ذا نيو ريببلك» الأمريكية، اتفق الكاتبان «ديفيد أدلر» و«دانيال بيسنر» على أن الولايات المتحدة ما زال بإمكانها -حتى الآن - الاحتفاظ بقوة ومكانة الدولار على رأس مختلف العملات، على الرغم من تفاقم الاضطرابات الاقتصادية والسياسية فى معظم أنحاء العالم.
ولتأكيد رأيهما، لفت الكاتبان إلى قرارات الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب»، المخالفة لرغبات أقرب الحلفاء الأوروبيين، كالانسحاب من المعاهدات التجارية، وسياسة فرض العقوبات وتشديدها على عدد من الدول، مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، ولم يكن أمام الحلفاء سوى مسايرة «ترامب»، وإن بدأ التململ ينتاب بعض زعماء الاتحاد الأوروبى من استمرار قوة الدولار، الذى يُحد من حريتهم فى اتخاذ القرارات والسياسات التى تتّفق مع مصالح بلادهم.
وفى مطلع العام الماضى، أصدر المجلس الأطلسى فى واشنطن، وهو مؤسسة بحثية مؤثرة فى مجال الشئون الدولية، تقريراً تحت عنوان «أهم 23 خطراً وفرصة للعام 2023»، تحدّث فيه عن احتمال ابتعاد عدد من الدول، سواء كانت من أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية أو خصومها، عن الدولار بأسرع مما كان متوقعاً.
وطبقاً لـ«جوش ليبسكى»، مدير مركز «جيو إيكونوميك» التابع للمجلس الأطلسى أيضاً، فإنه حتى الآن وبشكل عملى ما زالت مزايا الدولار متجذّرة بعمق فى النظام المالى العالمى، ولفت إلى رغبات الكثير من الدول فى الفكاك من أسر «مستر» دولار، رغم عدم وجود بديل واضح.
وللحديث بقية.