تحتاج الذاكرة الوطنية إلى إنعاش كل حين، ليس بسبب عوامل الزمن ولا التآكل بتراكم الأحداث، إنما لاستهدافها على الدوام من إعلام الشر، وربما لا توجد قضية يتم الاشتباك معها ومع تفاصيلها ومع تاريخها كما يحدث مع القضية الفلسطينية، التى تحتاج للحديث عنها بكاملها إلى مجلدات ورسائل علمية بين الماجستير والدكتوراه، ترصد وتُدوِّن وتسجل وتؤرشف، لبلد لا يدعم فقط نضال الشعب الفلسطينى للحصول على حقوقه، بل هو جزء أصيل من المعادلة كلها، بالسلاح مرات وبالحوار مرات، ومصر ربما كانت البلد الوحيد الذى أفعاله تتسق مع قراراته وبياناته التى يصدرها.
هناك مشروع مصرى كامل متكامل لحل الأزمة من جذورها، تحمله مصر إلى العالم كله، وتمتلك أكبر مساحة اشتباك مع الأحداث لا ولم تتوفر فى بلد آخر، تبدأ من رئيس الجمهورية ومؤسسة الرئاسة، إلى وزارة الدفاع وتأمينها لحدود البلاد ولعب أدوار مهمة فى الإغاثة وغيرها، إلى وزارة الخارجية الممثل الرسمى لسياسة البلاد مع دول العالم، إلى جهاز المخابرات العامة العظيم ودوره فى القضية وفى العدوان الأخير، إلى الهيئة العامة للاستعلامات وهى جهاز العلاقات العامة للدولة المصرية، إلى الهلال الأحمر المصرى، إلى مؤسسات وهيئات المجتمع المدنى، وبما لا يتوفر لأى بلد آخر أن تحشد مثل كل هذه الجهود فى اتجاه واحد ولهدف واحد ولقضية واحدة!
وبينما بدأت مصر مبكراً جداً محاولات منع حدوث عدوان إجرامى كبير على الأشقاء، بدأت مبكراً من التحذير المتكرر من خطر الضغوط التى يتعرض لها الأشقاء من محاولات تهويد القدس وتغيير معالمها العربية، وهو ما تصدَّت له مصر فى اليونيسكو عام 2017 وأغضب الولايات المتحدة جداً، والذى لم يوقف الدعم المصرى للأشقاء وحماية المدينة المقدسة وجميع المقدسات العربية مسيحية وإسلامية، بل انتقل فى العام نفسه إلى مقدمات اعتراف الولايات المتحدة بالقدس نفسها عاصمة للعدو الإسرائيلى، وهو ما رفضته مصر أيضاً وتصدَّت له داخل الأمم المتحدة بمؤسستيها مجلس الأمن والجمعية العامة، والتى حشدت مصر فيها الدول الرافضة للقرار الأمريكى، وهو ما جرى أيضاً فى جميع الدوائر الدولية الأخرى، ثم رفضت احتفالية الولايات المتحدة بافتتاح سفارتها هناك، ولم تكترث مصر للرأى الأمريكى فى تلك المواقف!!
وقبل انفجار «7 أكتوبر» -وأرشيف الأحداث موجود- حذرت وتنبأت مصر بما جرى فى تحذيراتها الدائمة وإدانتها لأحداث حى الشيخ جراح الشهير والعدوان الدائم على أرواح وومتلكات وأراضى ومزارع الأشقاء فى الضفة الغربية، ثم الإدانة الكاملة لاغتيال الصحفية شيرين أبوعاقلة ومطالبة مصر بتحقيق دولى فى الحادث ورفضها المتكرر لجميع تبريرات العدو الإسرائيلى لسلوكه تجاه الأشقاء، ثم كانت الإدانات المصرية الشاملة والكاملة والمطلقة والمتصلة لتدنيس المسجد الأقصى من وزراء فى حكومة الاحتلال الصهيونية نفسها، وليس فقط من متطرفين يهود، وكذلك الرفض الكامل للعدوان على الكنائس، بما فى ذلك ما جرى من عنف فى جنازة «أبوعاقلة» فى إحدى الكنائس أثناء تشييعها فى مسخرة صهيونية لا مثيل لها من إهانة واستهانة بحرمة الصلاة على شهيدة!
كل ما سبق هو بعض مختصر للغاية من الجهد الرسمى المصرى لمنع انفجار الأوضاع، وهو ما ذكرته البيانات المصرية حرفياً، وهى موجودة، وحذرت مما يجرى، أما الحديث عن الدعم على الأرض، إنسانياً وإغاثياً، فهو أيضاً حديث طويل لا تستوعبه مساحة المقال مع الجهود السابقة، فقد بدأ أيضاً قبل «7 أكتوبر»، فمصر كانت الدولة الوحيدة التى قامت بإعمار غزة ضد عدوان 2021 والدمار الذى جرى وقتها، وتكفلت مصر -بمؤسساتها وأموالها ومهندسيها- ببناء مدن فى جباليا وبيت لاهيا والشجاعية، مع ضبط المرور فى مدينة غزة بتقاطعاته وجسوره، وكذلك كورنيش غزة الذى أطلق عليه الأشقاء «كورنيش مصر» تقديراً للدور المصرى ولقرار الرئيس عبدالفتاح السيسى شخصياً، وقد تقدَّم وحده لإعمار غزة، وهو ما لم يتسع الوقت ليهنأ به الأشقاء، إذ حدث عدوان ما بعد 7 أكتوبر الصهيونى الإجرامى، ولهذا حديث آخر يحتاج كله إلى إنعاش جديد للذاكرتين، القومية والوطنية!