يقال إن عمر نساء الجنة هو الـ33، يبدو أن «هبة» قد أتمّتها هذا العام فى معية الرحمن، لا شك لدىَّ أنها قد صارت إحدى نساء الجنة، من أحق بتلك المكانة من شابة جميلة، موهوبة للغاية، تملك ناصية اللغة، استطاعت فى 32 عاماً فقط هى إجمالى عمرها فوق كوكب الأرض أن تترك بصمة واضحة، وأن تقول كلمتها بقوة كل خلية فى جسدها الذى انتهت فترة وجوده الأرضى، وانتهت معه هبة كمال أو ندى من قول ما لديها تاركةً الحكم لمن كان له قلب.
انخرطت فى قراءة روايتها الجميلة «الأكسجين ليس للموتى» توقفت كثيراً عند العنوان العظيم، صحيح أنه بديهى، لكن بعض البديهيات تصير بحاجة للتكرار، من حين لآخر لعلها تجد مَن يعقل، تماماً كتلك الكلمات التى نشرتها صباح 18 أكتوبر 2023، لتستشهد بقصف منزلها فى حى الزهرة بغزة 21 أكتوبر 2023، ثلاثة أيام فقط، بين ما كتبت بكل صدق وما عبر صفحتها الشخصية بموقع فيس بوك، لتوقعه بدمها لاحقاً، رسالة وداع أبدية، تقول: «غزَّة فعلت أقصى ما يمكنها فعله فى مواجهة هذا الظلم تجاوزت الخيالات وارتفعت عن سقف الممكن والمستحيل، حطَّمت كل التماثيل، واللاءات، واخترعت صموداً سيظل يدرَّس فى التاريخ وينسب إلى غزة، وعندما تنسلخ الأكاذيب، ويتساقط السياسيون المنافقون، والطغاة المستبدون، وتنهار الإنسانية الزجاجية على نفسها، ستبقى غزة رمزاً أسطورياً، غيرَ مفهوم وغير ممكن، رقماً قياسياً لا يمكن للمدن والحضارات والجيوش تحقيقه إلا بزمان الأنبياء والمعجزات، لقد فعلنا ما يجب علينا فعله لنسترد حقوقنا ولنقاتل ونصمد بالنيابة عن الأمة والمظلومين فى العالم، لا شىءَ لنندم عليه، ولا لنحزن عليه، أمام الله وأمام أنفسنا نحنُ أصحاب حق وجزاؤنا من العهد كان أن نصمد ونحاول، وما بعدَ ذلك هو أمرُ الله، آمنا به وعليه توكلنا، إن أماتنا الله فتلك شهادة شرف، وإن بقينا فلنروِ الحكاية، ونضع قصتنا فى عيون العالم أجمع، وما بين هذا وذاك، لنا طقوسنا فى البكاء والصبر، والحزن والتذكر، والأمل واليأس، نحن تحت الطائرات، والله أعلى منا، ومنهم، إن متنا بلغوا بالنيابة عنا كان هنا أناس يحلمون بالحياة والحب وأشياء أخرى».
فى روايتها البوليسية، تبدأ الأحداث بعدة اغتيالات لتبدأ التحقيقات من أجل معرفة من الفاعل، اختارت هبة «آدم» ليكون بطلاً لروايتها، ضابط مخابرات يعانى اضطرابات نفسية بسبب حادث تعرض له وعجز عن تجاوزه، أتأمل طوال قراءتى للرواية قدرة هبة على التعبير عن أدق التفاصيل واللفتات، إحساسها بالأشياء والبشر، فى روايتها يحاول «آدم» الهروب من حادث قديم، يعتقد أنه بهروبه يتجاوز ما جرى لكنه يجد نفسه متورطاً فيما هو أكثر قسوة لتجذبك الأحداث بداية من الصفحة 33 وحتى نهايتها، تركض من واحدة لأخرى قبل أن تجهز عليها كاملة، تاركة فى نفسك الكثير من الأسئلة حول العالم والبشر والأحداث اليومية التى لا تبدو اختيارية بأى شكل.
استوقفتنى عناوين الفصول المتقنة، «البداية هى الكذبة الأولى للراوى»، «أشد مرارة من القهوة»، «العميان يرون الضوء أولاً»، «فى الطريق إلى قلبى»، كما استوقفتنى بعض الجمل كان أكثرها قسوة: «ولكنها الذاكرة يا صديقى، الذاكرة! إنها شىء لا يمكننى الهرب منه، إنهم يعدون فقدانها مرضاً، وأنا أعد بقاءها إعداماً مع وقف التنفيذ!»، أنا يا هبة، وإن لم أقابلك، لا أقدر على الهروب من الذاكرة، بعدما رأيت ورآه العالم، ما زلت أتساءل كيف أمكن لتلك الشابة أن تكون بتلك البصيرة النافذة، والقدرة على استقراء المستقبل بل وتخطيه، هكذا تخبر نبوءتها لقراء روايتها بكل ثبات وقوة: «وفى النهاية أولئك الذين يقرأون القصة، بعد عصورهم وحدهم الذين يمتلكون البصيرة الكافية، لمعرفة البطل الحقيقى!».
جديرٌ أن أذكر لك أن هبة كمال أبوندى شاعرة وروائية فلسطينية، ولدت عام 1991، وحازت جائزة الشارقة للإبداع الروائى عام 2017، وجائزة فلسطين للقصة القصيرة فى العام 2019، وأنها قد تخرجت فى الجامعة الإسلامية بغزة، حيث لم تعد أى من ندى أو الجامعة موجودتين، وقد نعتها وزارة الثقافة الفلسطينية فى بيان جاء فيه: «الكاتبة والشاعرة هبة كمال أبوندى تقضى نحبها شهيدة نتيجة العدوان المستمر على شعبنا فى غزة»