لم يكن لزينب بنت جحش أن ترد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلبها لربيبه «زيد بن حارثة»، وقد كانت من الإيمان بحيث تتفهم الحكمة العميقة لهذه الخطوة، والمتمثلة فى المثل والقدوة التى أحب النبى أن يقدمها للمجتمع المسلم بأن الإيمان يساوى بين البشر، ويسقط كافة الأمور الشكلية الدنيوية التى تعوّد أبناء المجتمع التباهى بها، مثل الحسب والنسب والمال والجمال وغير ذلك من أمور، وأن التميز يظل لتقوى الله والإخلاص لقيم الدين.
ويبقى أنه مهما كانت صلابة الإنسان وولاؤه لما يؤمن به، فإن ذلك لا يمنع من لحظات ضعف تنتاب النفوس، تثور فيها الأفكار القديمة، وتقفز على السطح، وتتصدر التفكير، وتدفع بصاحبها أو صاحبتها إلى سلوكيات معينة.
وذلك ما دفع «زيد بن حارثة» إلى الذهاب إلى النبى ليشكو إليه «زينب» أكثر من مرة.
جوهر الشكوى تمثل فى عدم قدرة «زيد» على تحمل هذا «الإحساس العميق بالذات» الذى تميزت به شخصية «زينب».
فى إحدى المرات قال «زيد» للنبى: إنى أريد أن أفارق صاحبتى. قال: ما لك.. أرابك منها شىء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذينى بلسانها.
جوهر الخلاف بين زينب وزيد تمثل فى طبائع الشخصية، فقد كانت زينب امرأة ذات شخصية، وكانت خلافاً لسيدات ذلك العصر تتمتع بالرؤية والحكمة التى تدفعها لأن تدلى برأيها فى كل شىء، وبالتالى كانت تمارس حقها فى إبداء الرأى مع «زيد» فى كل ما يخص حياتهما، وهو أمر من الواضح أنه لم يُرضِ «زيداً»، فقد أراد زوجة مثل زوجته الأولى «أم أيمن» التى دأبت على طاعته فى كل شىء، ولم يلتفت إلى فروق النشأة والتكوين والشخصية والطباع ما بين السيدتين الجليلتين.
كان «زيد» هو الآخر يشعر بذاته وقيمته ومكانته التى اكتسبها من موقعه، كواحد من أقدم المؤمنين المخلصين للإسلام، بالإضافة إلى موقعه من النبى صلى الله عليه وسلم.
أمام إصرار كل طرف من الطرفين على عدم التنازل أو استيعاب الطرف الآخر، باتت الحياة مستحيلة بين زينب وزيد، وذهب «زيد» إلى النبى، ولىّ أمرها الذى زوّجها له، ليستأذنه فى تطليقها، وكان من الطبيعى أن يرد عليه النبى، الذى يُعلّم المؤمنين أن أبغض الحلال عند الله الطلاق، قائلاً: «أمسك عليك زوجك واتقِ الله»، رغم أنه يعلم فى داخله أن الطلاق هو النتيجة الحتمية لهذه العلاقة المتوترة، لكن ذلك لم يكن يمنعه، صلى الله عليه وسلم، من محاولة رأب الصدع بينهما، من خلال الحديث إلى ربيبه «زيد» ونصحه بأن يتحمل زوجته ويحاول أن يستوعبها، وربما أيضاً الحديث إلى ابنة عمته «زينب» وتوجيهها هى الأخرى إلى استيعاب زوجها، حتى تستقيم الحياة بينهما.
وفى هذا السياق يمكن أن نفهم تلك الزيارة التى يتحدث عنها بعض المفسرين وهم يفسرون قول الله تعالى: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ».. وحول هذه الزيارة دار لغط كبير انتقل صداه من جيل إلى جيل.