لم تعرف الانتخابات الأمريكية عبر تاريخها المعاصر ما شهدته فى الانتخابات الحالية من فراغ سياسى وغياب قيادات سياسية، بمعنى امتلاك مشروع جاد يُحدّد ملامح السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً.
إذ لم يعد الناخب الأمريكى مدفوعاً إلى تأييد مرشح، تقديراً لسياساته ومواقفه، بل كون سياسات البديل الآخر أسوأ.
أصوات الناخبين فى هذه الانتخابات لن تتّجه إلى مرشّح تقديراً لبرنامجه الانتخابى، وإنما لتحفظهم بصورة أكبر على المرشح الآخر.
وبالتالى رغم صعوبة تحديد الفائز مع الهوامش الضئيلة التى أظهرتها جميع الاستطلاعات بين دونالد ترامب وكامالا هاريس، ما منح الولايات المتأرجحة الكلمة الفاصلة فى تحديد القادم أو القادمة إلى البيت الأبيض، حيث يمكن للهوامش الضيّقة أن تحسم النتيجة النهائية.
يستقبل الفائز مع نشوة النصر مجتمعاً أمريكياً مستقطباً غير حاسم فى توجهاته، مواطناً غير متحمس للانغماس فى القضايا الدولية، رغم حراك طلابى حاشد لم يعرفه المشهد الأمريكى منذ حرب فيتنام، والذى انتشر الأشهر الماضية، تعاطفاً مع القضية الفلسطينية.
إذ وفق كل الاستطلاعات، فإن ما يقرب من نصف الناخبين يعتقدون أن بلادهم تُهدر أموال الضرائب دون مُبرّر عبر تقديم الدعم لحلفائها -تحديداً إسرائيل وأوكرانيا- فى الخارج مع حقيقة أن المقعد الرئاسى يبدو أكبر من حجم كلا المرشحين، وأن «ترامب - هاريس» كليهما من وجهة نظر الناخب لا يستحقان منصب سيد أو سيدة البيت الأبيض.
فى ظل هذا الفقر السياسى يبرز السؤال المحورى، هل يتّجه الناخب الأمريكى بين اختيارين محدّدين إلى ترامب المرشح الذى أحاط حضوره ومعاركه ببريق النجومية والقوة مع التحفّظ على السلبيات التى تمثلها سياساته؟
الناخب والمواطن العربى بشكل عام قد يجد فى «ترامب» المرشح الأفضل نسبياً فى حال نشاط التنظيمات الإرهابية أو تصاعد العمليات الانتقامية فى دول العالم نتيجة المسار الأرعن الذى يمضى فيه الكيان الصهيونى.
إذ تُشكل هالة القوة والنفوذ المالى التى تحيط ترامب مؤشراً على تأثّر الناخب الأمريكى فى مجتمع قائم على الصفقات السياسية والمالية، كما قد تستدعى هذه السمات قدرة عند ترامب تفوق مثيلتها عند هاريس فى التأثير على التيار اليمينى المتطرّف داخل إسرائيل للتوصّل إلى وقف إطلاق نار على جبهتى لبنان وغزة، تحديداً وأن ترامب يريد أن يرى نهاية الحرب.
فى المقابل، هاريس كانت بحكم موقعها كنائبة رئيس فى إدارة مُترهلة عجزت عن وقف العُنف المتصاعد فى المنطقة على مدى أكثر من عام، وما زالت علامات الاستفهام تحيط بمؤشرات توجّه الأجواء بالغة التعقيد إما إلى حرب شاملة لا ترغب بها كل الأطراف الدولية والإقليمية، وإما استمرار الضربات المتبادلة بين ثالوث حزب الله، إيران، إسرائيل، حتى ينجح القادم إلى البيت الأبيض فى إيجاد صيغة لاختراق الرفض والتعنّت الإسرائيلى تجاه كل مبادرات التهدئة.
لذا ينتظر السؤال المؤثر عربياً حول الانتخابات القادمة الإجابة عن قدرة ترامب على كبح الجموح الوحشى الإسرائيلى.
ارتباط كامالا هاريس بأكثر الرئاسات هواناً وأكثر الإدارات ضعفاً قد يرجّح محدودية قدرتها على إنهاء العنف فى الشرق الأوسط.
حتى إن بعض الآراء ذهبت إلى تصنيف هاريس بأنها أضعف مرشّح للديمقراطيين منذ الرئيس الأسبق جيمى كارتر، فضلاً عن أن تاريخ هاريس السياسى لم يُختبر، نظراً لعدم فوزها سابقاً فى انتخابات جادة، إذ لم ترتقِ فى مناصبها السياسية بالانتخاب.
من أبرز الملاحظات التى يجدر التوقّف عندها خلال الأشهر الماضية فى الحملات الدعائية لكلا المرشحين أن ظهورهما العلنى اقتصر على منصة لا تتناول السياسة إذا اكتفت هاريس بتقديم نفسها على أنها الخيار الوحيد ضد ديكتاتورية وشعبوية ترامب الذى بدوره قابلها بشن هجمات مضادة تدور حول ضعف وفشل سياسات الإدارة التى تمثلها خلال الأربعة أعوام الماضية فى حين أنه كمنافس ينبغى أن يناقش برامجه السياسية وعناصر القوى التى تتضمنها فى مقابل تردى سياسة بايدن - هاريس.
التفاعلات المتناقضة بين المواقف الدولية أيضاً لن تتأخر فور بدء الإعلان عن النتائج الأولية.
رغم عدم تطرّق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى أى تصريحات للانتخابات الأمريكية، إلا أنه من البديهى أن تكون روسيا سعيدة فى حال فوز «ترامب» فى مقابل تلقى الرئيس الأوكرانى زيلينسكى ضربة قوية حال إعلان هذا الفوز بالنظر إلى تصريحات ترامب حول الصراع الروسى - الأوكرانى. على النقيض موقف دول أوروبا الغربية لن يقابل فوز ترامب بارتياح، فالضعف السياسى الذى اتسمت به إدارة بايدن ألقى بظلاله فى تحمّل جزء لا يُستهان به من أسباب تراجع قوة وتأثير دور دول المجموعة الأوروبية على مجريات الأحداث، تحديداً فى الشرق الأوسط.