يعد الحوار البناء هو السبيل الأمثل لحل المشكلات، وعبور الأزمات، ولا يمكن لهذا أن يتم على وجه سليم دون إقرار حق المواطنين فى إبداء الرأى، وطرح الاقتراحات والتصورات، وتقديم البراهين والحجج التى تسند آراءهم، وتحمى مصالحهم، والإنصات إلى قولهم إن تكلموا، وإدراك مراميهم إن فعلوا.
ويجب ألا يكون الحوار موسمياً، ومقيداً، أو يستعمل فى التعمية والمراوغة والادعاء. ويجب أن تتوافر للحوار شروط النجاعة والنجاح، فلا يقوم على منطق الاستدعاء المؤقت، والإلحاق العابر، فمن يُستدعى يُستبعد كما يشاء، وفى الوقت الذى يريده. وهنا من الضرورى أن تتوافر للمتحاورين الفرص نفسها فى النقاش، وأن يتساووا فى الوزن النسبى لرأى كل منهم وفى موقعه وموضعه من التحاور.
ويجب أن يكون للحوار جدول محدد يحوى القضايا والمسائل موضوع الحوار، ويكون هذا باتفاق المتحاورين، وأن يكون للحوار مدى زمنى قاطع، وأن يكون هناك التزام بتنفيذ مخرجاته.
ومن الضرورى أن يعلو الحوار ليكون طريقة عمل داخل المجتمع كله، ولا يقتصر على حوار ينشأ بين حين وآخر وتكون أطرافه السلطة ومعارضيها أو بعض الشخصيات العامة وأصحاب الاختصاص. فالحوار ضرورى داخل الأحزاب السياسية، والمؤسسات الإدارية، والمنشآت التعليمية، ولدى العائلة والأسرة. ويتطلب الحوار وجود عدد من القيم الإنسانية والسياسية المهمة؛ أولها التعددية، فالتعدد هو سنة الحياة، فالبشر عموماً مختلفون فى المعتقد والتفكير والثقافة والمكانة والتوجه السياسى والرأى والمصالح، والمجتمع السليم هو من يحول الاختلاف هذا إلى تنوع بشرى خلاق.
وداخل المجتمع الواحد، أو فى الدولة الواحدة، تتعدد الهيئات والمؤسسات والتنظيمات سواء المدنية أو الدينية، وتوجد عدة ثقافات فرعية، من الضرورى أن تعبر عن نفسها بحرية، وتصب فى الثقافة الأصلية، أو الجامعة، أو التى يحملها التيار الاجتماعى الرئيسى، فتكون بمنزلة النهيرات الصغيرة التى تتدفق نحو النهر الكبير، فتعزز من تدفقه إلى الأمام.
وتفرض التعددية، فى تنوعها وكثرتها، ضرورة التعبير عنها دون قيد أو حجْر أو إكراه، وفى ظل إقرار مبدأ الاعتراف بحق الآخر فى الوجود، وفى التعبير العلنى والسلمى عن رأيه وهويته ومصلحته واحتياجاته وأغراضه وأهدافه، بما لا يجعل هذا سبباً للمواجهة والتناحر، ويحول دون وقوع غبن أو ظلم أو انفجار اجتماعى.
وينطلق الحوار من إيمان قيمة المشاركة، فدونها لا يمكن لديمقراطية أن تقوم، ولا لشرعية أن تدوم، فهى وحدها التى تجعل الشعب حاضراً لا يغيب، فاعلاً لا يخمد، وتبين مدى احترام السلطة السياسية للناس، وإدراكها أنهم أصحاب المال والسيادة والشرعية.
ويجب ألا تقتصر المشاركة فقط على مواسم الانتخابات، المحلية والبرلمانية والرئاسية، ولا الاستفتاءات العامة على تغيير أو تعديل دستورى، إنما من الضرورى أن تكون حيث يصدر قرار يتعلق بشأن عام، أو مال عام، أو مصلحة عامة، فى أى مؤسسة أو هيئة أو مصلحة أو منشأة حكومية أو خاصة. هذا النوع من المشاركة لا يعنى أبداً أن تكون سلطة اتخاذ القرار جماعية، إنما تكون صناعته كذلك، إذ يأخذ رئيس أى مؤسسة فى الاعتبار آراء ومواقف مرؤوسيه، حتى تتسم قراراته بالرشادة، وتحقق الرضا المطلوب عن الأداء.
وقد بلغت قيمة المشاركة مكانة مهمة فى الديمقراطيات المعاصرة، حتى إن كثيرين يرونها الحل السحرى للمشكلات التى تعانى منها نظم الحكم الديمقراطية، والمادة الصالحة لسد الثغرات والشروخ التى تظهر أثناء تطبيقها، لا سيما بعد أن عجزت «الديمقراطية التمثيلية» عن تحقيق الأهداف والغايات العليا لنظم الحكم فى الليبراليات الغربية.
فالأدبيات السياسية المعاصرة تتحدث عن «الديمقراطية التشاركية»، التى تعنى حضور الناس الدائم وغير المشروط إلا بالدستور والقانون فى صناعة القرارات العامة، وهى مسألة تحققها الاستطلاعات وقياسات الرأى العام المستمرة، وإقرار حق الاعتراض.
أخيراً يمكن للحوار أن يعزز الأخوَّة بين أفراد الشعب، وهى تعنى تضامن المواطنين داخل الدولة، بما يعزز الميل إلى التآزر والتساند والتعاون والتكافل والتكاتف، وأن يكون لهم جميعاً القيمة والأهمية والمسئولية نفسها فى تحديد الحقوق التى يجب أن يحصلوا عليها، والواجبات التى عليهم أن ينهضوا بها. كما تتضمن الأخوَّة إدراك «الحس الإنسانى المشترك»، وإعلاء التسامح بين المواطنين، وفتح قنوات واسعة وعميقة للتفاهم وقبول الآخر، على أن أفراد الشعب شركاء فى المال العام، ولهم السيادة، وهم من يمنحون للسلطة السياسية شرعيتها.