سوف تخدعك جيهان عمر بكل تأكيد، وسوف ينطلى عليك الأمر إن قررت شراء أحدث كتبها «قبل أن يرتد إليك طرفك» الصادر عن دار العين للنشر، والذى يحمل شارة «قصص»، سوف تبدأ القراءة لكنك ستدرك سريعاً مع نهاية كل قصة أنك قد قرأت لتوك قصيدة متنكرة.
وسط عالم عامر بالقسوة والخشونة تأتى تلك المجموعة كلمحة لطف، تمنحك جيهان -وهى شاعرة فى الأصل- جرعة من الخفة وسط ثقل هذا الكون، بمجموعة من الحكايات الرقيقة المختلفة التى وللمفارقة يدور بعضها حول حياة الشعراء، مع عناوين مختلفة وفارقة لكل حكاية مثل: «البحر داخلى»، «حديقة المسرات الدنيوية»، «هشاشة بائع الحلوى»، «سيلفيا ونوارسها البيضاء».
سابقتنى التنهدات أثناء القراءة، توقفت طويلاً أمام هذا المقطع البديع «كذبات أبريل ملأت العام، كذبات أفسدت علىّ الحياة مثل قطرات الحبر على رداء جديد، يأتون غالباً بمزيد من الكذبات المتوالية وكأنها كنزهم الثمين، وأنا التى أتناولها كقطع البيتى فور الصغيرة حتى أمتلئ، وأطلب منهم التوقف، والكف عن مناولتى كذباتهم البيضاء والرمادية المغطاة بالشيكولاتة السوداء».
لا أنكر أننى قمت باقتباس بعض مما كتبت جيهان إلى أجندتى الخاصة، ليصبح جزءاً من يومياتى، اقتباسات ذهبت بى إلى أبعاد، ربما لم يكن ليسعفنى خيالى بزيارتها، كذلك المقطع فى «البحر داخلى» حين تقول: «أستاذ الفلسفة تجاوز السبعين، كان يحمل البحر بداخله، ولم نكن ندرى هل يحمل الجبال والطيور والغابات بداخله، فيكتمل المشهد هناك فى الداخل.. أدركت أنه تفوق علىّ حين نظرت داخلى وهالنى مشهد الصحراء، شعرت يومها بالعطش الشديد وألم خفيف وغير مفهوم فى باطن قدمى لم أفعل شيئاً سوى الذهاب إلى صنبور المياه، شربت كثيراً ولم ينتبه أحدهم يومها لهذا العطش».
تستطيع المجموعة الصغيرة التى لا يتعدى عدد صفحاتها الـ112 صفحة اصطحاب قارئها عبر تفاصيل يومه العادية، وحتى فى الزمن، هكذا ستجدك تحب اليانسون فجأة، وتنظر إلى بدايات الأعوام بشكل مختلف: «فليأت العالم أو يذهب العالم من طرفيه هو مجرد يوم»، ستدرك أيضاً مدى فداحة احتمال ما لا يجب احتماله، ففى قصتها «لا ألم فى كيرلا» وعبر سطور قليلة تخبرك جيهان بذلك السر الذى ربما يختصر عليك سنوات طويلة قد تعيشها تحت وطأة معاناة متخيلة، أتحدث هنا، أو بالأحرى تتحدث هى عن اعتياد البؤس والألم، وكيف يمكن للبعض التعلق بأمور مؤذية، بل والتكيف معها على مدار أعمار كاملة، بدعاوى عديدة، تقول جيهان: «فكرت كيف يتخلصون من الألم فى ثوان، بينما نتعود على مصاحبته وترويضه، نُخبئه أحياناً تحت الوسادة، ونلتقطه فى الصباح، نرعاه كطفل صغير ثم نلقى عليه السلام كفرد بالغ مثل ربيب للعائلة».
تهوى جيهان التصوير، تلتقط صورها بعين شاعرة، وهى أيضاً تكتب الشعر بأرق طريقة ممكنة، لها دواوين سابقة هى «أقدام خفيفة»، «قبل أن نكره باولو كويلهو»، «أن تسير خلف المرآة»، وهى أيضاً ساحرة تمارس سحرها الخاص، خدعتها الخاصة الحقيقية أنها سوف تأخذ عينيك وأذنيك، وفمك، وحتى أصابع يديك، وربما أنفك، وتمنحك حواسها هى، فترى وتسمع وتلمس وتتذوق وتسمع مثل جيهان، هكذا يصير لديك مشاعر استثنائية تتلبسك كلياً خلال وقت قراءتك، فتصير أنت هى، وتصير هى أنت، قبل أن يرتد إليك طرفك.