يقول المفكر الكبير المرحوم خالد محمد خالد فى مذكراته التى نُشرت بعنوان: (قصتى مع الحياة): إنه عندما صح من الشيخ حسن البنا العزم هو والأستاذ أحمد السكرى على تكوين جماعة الإخوان ذهبا إلى الشيخ يستأذنانه ويسألانه النّصح والدعاء، فأذن الشيخ لهما، وقال: سيجمع الله حولكما خلقاً كثيرين، فاتقوا الله فيهم، وما إن فرغ الأستاذ من ذكر النبوءة حتى وجدتنى أسرح مع خاطر مُلح، يقول لى: إذا صحت نبوءة فضيلة الشيخ فإن الأستاذ البنا لن يصل إلى منتهى الطريق التى رسمها لنفسه ولجماعته، لأن الشيخ وقف عند قوله: (سيجمع الله حولكما خلقاً كثيرين)، ولو كان هناك مزيد لتنبأ به، وها هم أولاء الخلق يتجمّعون وسوف يتجمّعون أكثر وأكثر.. فماذا بعد هذا؟
وبعد يومين كنت أسير فى شارع الأهرام بصُحبة الشيخ محمد الغزالى، والشيخ زكريا الزوكة، ورويت لهما ما حدث، فإذا بالشيخ الغزالى يقول فى أسى واضح: إن هذا الإحساس يلم بى كثيراً، ويقول الشيخ زكريا: وأنا أيضاً، وفى رأيى أن الأستاذ البنا «زعيم تهيئة» ولن يزيد.
هذا الكلام يؤكد أن «البنا» كان ناجحاً فى عملية التهيئة والتعبئة والتجنيد، ولكن بطرح فراغى، بمعنى أنه قدر على تحقيق الإشباع النفسى لأتابعه، لكنه يُلقى بهم إلى الفراغ والوهم، وإلى مسافة بعيدة جداً بين الواقع وبين ما يطرحه، ويملأ أتباعه بأهداف حماسية يختلط فيها العلم بالعاطفة، والابتلاء بالهزيمة، والمحكم بالمتشابه، والأصول بالفروع، يستهلك العمر والطاقة الإنسانية فى ما لا طائل منه من الأمنيات والمعارك الوهمية.
والقائد حينما يكون زعيم تهيئة، وليس زعيم منهج علمى مؤصل منضبط، يكون من الطبيعى أن تكثر الانحرافات الفكرية والشرعية والتربوية عند أتباعه، ومن هذه الانحرافات التى عانت منها جماعته: الخلل فى شروط العمل للإسلام، ونشوء التنظيمات التى تحرس الأيديولوجيات ولا تحرس الدين.
واعتقاد أن الإسلام ينتشر بالسياسة لا بالحضارة، والعمل للجماعة لا للأمة، بسبب حلول الجماعة محل الأمة فى عقل هذه التيارات، وحلول الهرمية التنظيمية محل الهرمية الشرعية، ورد الحق الذى لا يصدر عن الجماعة، والخلط فى فهم تصرّفات الرسول بالإمامة (سعد العثمانى)، والخلط بين فقه الأمة وفقه الفرد، وجعل الخصم السياسى هو محط الاهتمام وليس النفس البشرية، وخضوع العمل السياسى لمعيار الحلال والحرام أو مصلحة الجماعة، وصناعة مرجعية بديلة، الفقه التبريرى، واعتماد الطرق غير الشرعية لتكثير الأتباع، والخلط بين الهزيمة والابتلاء، وتصور أن التمكين يكون للأفراد لا للدين، واتّساع الفجوة فى القول والفعل، وتضخيم الذات، وذوبان الفرد فى التنظيم، ومناطحة الأقدار، وصناعة الأعداء، والتديّن الصراعى.
وقد رصد الدكتور محمد المهدى أكثر من 30 سمة من سمات التديّن الصراعى، منها:
1 - أنه يقوم على فكرة الاستعلاء العقيدى لدى الشخص (أو المجموعة).
2 - أنه يُفترض دائماً أن الآخرين فى حالة رفض وكراهية وتآمر على الدين، وأن ثمة مؤامرة محلية وكونية دائرة طوال الوقت (فى وعيه) لاجتثاث الدين ومن آمنوا به.
3 - يستشعر هشاشة الدين وضعفه وقابليته للاجتثاث والمحو، ولهذا يكون دائم القلق والخوف على ضياعه.
4 - يلجأ إلى السرية دائماً ليحتمى من الأعداء الكثيرين المتوقعين أو المتوهمين.
5 - الصراع والمواجهات بالعنف اللفظى (السب والشتم والدعاء على المخالفين له فى آرائه وتوجهاته).
ويجمع كل أنواع الانحراف: الخلل فى فهم القضايا الثمانى الكبرى: جاهلية المجتمع، الحاكمية، التكفير، انقطاع الدين، حتمية الصدام، احتكار الوعد الإلهى، الجهاد، الوطن.