وقر واستقر فى وجدان المصريين أن محمد على باشا الكبير هو مؤسس مصر الحديثة وباعث مجدها الحديث ومخرجها من ظلمات العصور الوسطى لأضواء الحداثة والتنوير، وبمرور الزمن صار هذا الرأى حكماً نهائياً غير قابل للنقاش يحفظه عن ظهر قلب تلامذة المدارس سواء فى عصر الملكية التى ينتهى نسب حكامها لمحمد على باشا أو عصر الجمهورية التى قامت كأثر لإسقاط أسرة محمد على، غير أن هناك مصريين جادت قريحتهم وضمائرهم بدعوات لإعادة النظر فى هذه الحقبة الفاصلة والمؤثرة فى تاريخنا الحديث، فخرج علينا الإمام محمد عبده، فى السابع من يونيو عام ١٩٠٢، وعلى صفحات جريدة «المنار»، يفند سردية محمد على والحداثة بمقال عنونه «آثار محمد على فى مصر»، تناول الشيخ نظام الحكم والسياسة والاقتصاد ورجال الباشا والتوسعات الخارجية، وخرج بحكم نهائى على حقبة الباشا أنه صنع مصر قوية ومصريين ضعفاء، كان هذا الحكم إجابة لسؤال: ما الذى صنعه محمد على فى مصر؟ ولكن السؤال الذى لم يطرحه محمد عبده هو: ما الذى صنعه الباشا فى آثار مصر؟حسناً، نحن الآن فى مطلع القرن التاسع عشر بعد أن فرغ محمد على من منغصات المماليك وثبّت موقعه لدى الباب العالى فى الأستانة، وحان وقت تأسيس جيش قوى يحقق طموحات الوالى الجديد، فى بادئ الأمر فكر الباشا فى الاستعانة بجند من السودان ليكونوا نواة جيشه الجديد، ووقع الاختيار على جزيرة إلفنتين فى أسوان لتكون مقراً بعيداً عن الأنظار لتدريبات الجيش الناشئ، كانت الجزيرة تحفل بآثار مصرية قديمة تجتذب الرحالة والشغوفين بالآثار القديمة، ومن أبرز هذه الآثار معبد قديم للملك أمنحتب الثالث، قرر الباشا هدمه ليفرض السرية على تدريبات جنوده، كان هذا المعبد من أكمل المعابد المصرية وأعظمها نقوشاً، كما دوّن علماء الحملة الفرنسية فى موسوعة «وصف مصر»، بالطبع فقدت مصر معبداً فريداً وباءت فكرة تجنيد السودانيين بالفشل، وقرر الباشا تجنيد المصريين ليكونوا نواة جيش مصر الحديث، لم يكن محمد على يعلم أن للمصريين تاريخاً عسكرياً طويلاً وأصحاب أول جيش نظامى فى التاريخ، وأن «جيوش الشمس» صالت وجالت قديماً شمالاً وجنوباً وأسست إمبراطورية مترامية الأطراف شملت الشرق الأوسط كاملاً، وهذا يؤشر لأهمية وقيمة المعرفة بماضى الشعوب وتأثير التاريخ فى تشكيل الوجدان وشحذ الهمم لبناء الدول ولعب أدوار حيوية على المستوى الإقليمى والدولى، كما انتهج إبراهيم باشا نهج والده؛ فأشرف على هدم آثار مدينة أنطونيوبوليس الرومانية، القائمة على قرية الشيخ عبادة بالمنيا، وأخذ حجارة آثارها ليبنى بها مصنعاً للسكر ومصنعاً للبارود فى جزيرة الروضة بالقاهرة، وسرعان ما انفجر مصنع البارود، وأطاح بمسجد أثرى كان يُعرف بمسجد المقياس، وفى الشرقية عام ١٨٢٥ صدر أمر تكليف لمحمود أفندى البارودى للإشراف على بناء قنطرة الزقازيق فوق بحيرة مويس المتفرعة من الرياح التوفيقى، وسرعان ما استعان محمود أفندى بمجموعة من «اللغمجية» الذين قاموا بتفخيخ ونسف موقع تل بسطة الأثرى وأخذوا الحجارة المتخلفة عن التفجير لبناء قنطرة «التسعة عيون»، القائمة فى الزقازيق الآن، لم يكن معبد الكرنك، أضخم دار عبادة فى العالم القديم، بمأمن عن معاول الهدم حين أصدر محمد على أمراً عالياً لواحد من رجاله باستخدام حجارة المعبد فى بناء مصنع للبارود فى الأقصر، لكن الفنان والمستشرق الفرنسى بريس دافين توسل بشدة لمندوب الهدم وأشار عليه بمصادر أخرى لجلب الحجارة فأذعن الموظف وأنقذت الأقدار معبد الكرنك من أن يكون مجرد حجارة فى مصنع بارود، أما معبد إسنا، ذو النقوش الزاهية والنصوص الهيروغليفية العريقة، فتم هدم أجزاء كبيرة منه وحل محلها عنابر من الطوب اللبن لتخزين محصول القطن الذى سيورد للباشا الزارع والتاجر الوحيد فى بر مصر، أما معبد أرمنت فكانت نقوشه تنافس نقوش معبد دندرة فتم تحويله لمصنع لتكرير السكر وهدمت معظم عناصره المعمارية لإفساح المجال لوضع معدات صنع السكر وبناء مخازن لاستيعاب الإنتاج، أما معبد كوم أمبو فقد اقتطعت بعض أعمدته ولم يتبق سوى القواعد؛ بإيعاز من محمد بك الدفتردار، زوج زينب، ابنة محمد على، الذى استخدم الأعمدة الأثرية فى بناء قصر للإقامة فى أسيوط، لم يتوقف نزيف الآثار المصرية عند هذا الحد؛ فقد عرض موظفو مديرية قنا معبد الأقصر للبيع فى مزاد، وبالفعل استقر المزاد فى حوزة أحد المستثمرين الأجانب ودفع الثمن للمديرية، وكاد أن يشرع فى هدم المعبد واستغلال حجارته لبناء فندق من طابقين على أنقاض التاريخ، غير أن أحد السياح الفرنسيين أبرق للقاهرة، فتم إيقاف الكارثة قبل حصولها، هذه مجرد أمثلة على ما أصاب آثار مصر القديمة جرَّاء سياسات محمد على، الذى طاشت معاوله فى أرجاء البلاد دون رادع، وسواء حاكمنا هذه التصرفات بمقاييس زمانها أو زماننا، فإن الباشا قد انفرد وحيداً، وعن جدارة، بلقب هادم آثار مصر القديمة.