ينطبق على قصة «أهل سبأ» تلك الحكمة التى ينسبها البعض إلى على بن أبى طالب والتى تقول: «من كان منكم فى نعمة فليرعها.. فإن المعاصى تزيل النعم».
شاء الله أن تتدفق النعم على أهل سبأ من كل حدب وصوب حتى تيسرت لهم ما يشبه الجنة على الأرض، فقد كانوا يعيشون فى حدائق وبساتين تحيط بهم من اليمين والشمال، تتزاحم فيها ثمرات كل شىء، أشهى المأكولات يأكلون، يملكون الماء الوفير، وينعمون بهواء نظيف. يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».
حياة مظللة بالنعم عاشها أهل سبأ، ينقل ابن كثير عن «قتادة» أن المرأة كانت تسير بـ«المشنة» فوق رأسها فتتساقط عليها الثمار من أعلى، ثمار كل شىء، دون أن تجهد نفسها وتمد يدها لتقطف منها، وساهمت صحة الهواء الذى نعم به أهل سبأ فى تخليصهم من كافة الهوام التى تعكر صفو المزاج، وخلت أرضهم أيضاً من الحيوانات المؤذية، ولم يعش فيها إلا الأليف منها، وفوق ذلك كانت وفرة المياه نعمة أخرى تضاف إلى جملة النعم التى ظللت الحياة فى سبأ، وقد تمكنوا من بناء سد عالٍ (سد مأرب) فى الوادى الذى يقع بين جبلين، راكموا المياه خلفه، واستخدموها فى تغذية زرعهم وأنفسهم.
لم تكن النعم مقصورة على الطعام والشراب، بل لقد حبا الله تعالى أهل سبأ أيضاً نعمة الأمان فتقاربت قراهم، والقرب كما تعلم طمأنينة، وحلت حياتهم بهذا القرب، وباتوا يتحركون من مكان إلى مكان فى أمان كامل. يقول تعالى: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ».
هل ثمة نعم أخرى يمكن أن يرتجيها الإنسان فى الحياة أكثر من الأطايب التى تغذى جسده والأمان الذى تهدأ فى ظلاله نفسه؟ التجربة الإنسانية تقول إنه لا يوجد، إنها الحياة الرغدة الناعمة الآمنة التى يحلم بها كل إنسان، الحياة التى وصفها الله بالجنة: «جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وشِمَالٍ».
تُرى ما الذى دفع أهل سبأ إلى التمرد على الجنة التى كانوا يعيشون فيها.. ولماذا سعوا إلى الخروج منها؟. لماذا أعرضوا عن هذه النعم وأداروا ظهرهم لها، فضرب سدهم السيل، وخربت أرضهم ودمرت حدائقهم وبساتينهم؟ يقول تعالى: «فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ».. لماذا تمردوا على نعمة القرب وما يوفره من أمان، وسألوا الله أن يباعد الله بين أسفارهم؟ يقول تعالى: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
أسباب متنوعة يمكن أن تسوق الإنسان فى لحظة إلى أن يعمل ضد نفسه ويتمرد على النعم.