أخيراً، بدا أن الحكومات والبرلمانات فى بعض دول العالم انتبهت لخطورة استخدام وسائل «التواصل الاجتماعى» على الأطفال واليافعين، وبدأت فى اتخاذ إجراءات للحد من مخاطر الاستخدام، والاستخدام المفرط لهذه الوسائل على صغار السن.
وبعد إجراءات وقرارات اتخذتها حكومات وولايات ومقاطعات فى دول مثل فرنسا، والصين، والولايات المتحدة، أعطت الحكومة الأسترالية إشارة، فى الأسبوع الماضى، إلى عزمها سن قانون يمنع الأطفال دون سن 16 عاماً من استخدام تلك الوسائل.
وتنوى الحكومة الأسترالية رفع مشروع قانون إلى البرلمان، فى نهاية الشهر الجارى، لحماية الأطفال من الاستغلال والتعرض للمحتوى غير المناسب لأعمارهم، ويتضمن هذا المشروع منح المنصات المختلفة فترة سنة واحدة لتوفيق أوضاعها قبل بدء التطبيق.
وقد هاجم بعض مالكى «الشبكات الاجتماعية» ومُشغليها هذا التوجه بطبيعة الحال، وردد هؤلاء ادعاءات -لم تجد أدلة كافية لإثباتها طوال الوقت- بأنهم يحتاطون للمخاطر الناجمة عن تعرض صغار السن إلى المحتويات غير اللائقة عبر هذه المنصات، وهى محتويات تتضمن جرائم فى عديد الأحيان، وثبت فى أكثر من مجتمع أنها تقود بعض هؤلاء الأطفال إلى ارتكاب جرائم، أو إلى الاكتئاب والعزلة، والانتحار أحياناً.
ويبدو أن الحكومة الأسترالية عمدت إلى اتخاذ قرارها هذا بعدما ربطت نتائج بحوث عديدة بوضوح بين إفراط الأطفال والمراهقين فى استخدام وسائط «التواصل الاجتماعى» من جانب، وبين تعرضهم لمشكلات صحية ونفسية من جانب آخر.
ومن بين تلك البحوث ما حمل انتقادات شديدة للقائمين على تشغيل هذه المواقع، بسبب توظيفها مؤثرات تُحفز هرمون «الدوبامين»، الذى يتحول «مكافأة سعادة»، تعزز ارتباط المراهقين واليافعين بتلك المواقع، قبل أن تصيبهم بأمراض؛ مثل الاكتئاب، والقلق، وربما تدفعهم فى مراحل لاحقة إلى الانتحار.
ويقتضى الإنصاف القول إن البحث العلمى لم يكن غائباً عن تقصى الأبعاد النفسية والصحية والاجتماعية لاستخدامات وسائط «التواصل الاجتماعى» بالنسبة إلى الأطفال واليافعين، كما أن بعض الحكومات والمشرعين انتبهوا إلى خطورة تلك الوسائط على الفئات الأصغر سناً، بل وسعوا إلى اتخاذ قرارات وإقرار تشريعات للتجاوب مع تلك المخاطر.
ففى ديسمبر من عام 2020، على سبيل المثال، كانت فرنسا منشغلة بحادث مقتل المدرس صامويل باتى، وما ظهر لاحقاً من ارتباط بين هذا الحادث ووسائط «التواصل الاجتماعى»، الأمر الذى دعا «دائرة التفتيش العامة للتربية» إلى إصدار تقرير عن هذه الواقعة، وهو التقرير الذى أشار بوضوح إلى ما وصفه بـ«خلل فى مراقبة شبكات (التواصل الاجتماعى)، ناجم عن ضعف آليات المراقبة والمتابعة»، قبل أن يدعو صراحة إلى «إحداث وتعزيز قدرات لمراقبة تلك الشبكات، وتبادل المعلومات بشأنها مع وزارة الداخلية».
لقد انتبهت الحكومة الفرنسية، من خلال وزارة التربية الوطنية وبعض وحداتها، إلى ضرورة إخضاع أداء تلك الوسائط لشكل من أشكال المتابعة، بعدما وجدت إفراطاً من اليافعين وصغار تلاميذ المدارس فى استخدامها، بعيداً عن إشراف الأسرة، أو توجيهها، وفى غيبة أى مراقبة عمومية يمكن أن ترصد المخاطر وتسعى للحد منها.
ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً غائبة عن محاولة بعض الإدارات الحكومية التعاطى مع المخاطر الناشئة عن الإفراط فى استخدام تلك الوسائط بين تلاميذ المدارس، ولذلك، فقد رفعت «إدارة المدارس العامة»، فى سياتل، بولاية واشنطن، دعوى قضائية ضد شركات التكنولوجيا الكبرى القائمة على تشغيل وسائط «التواصل الاجتماعى» الرئيسة، فى شهر يناير من العام الماضى.
وفى تلك الدعوى تم توجيه الاتهام لتلك الشركات بـ«المسئولية عن تفاقم أزمة الصحة العقلية بين الطلاب، ما أثر بشكل مباشر فى قدرة المدارس على تنفيذ مهامها التعليمية».
ورغم أن بعض البحوث والدراسات لا تقطع يقيناً بالربط التلقائى بين استخدام تلك الوسائط وبين حدوث مشكلات صحية وعقلية للأطفال واليافعين، فإن كثيراً منها يقر بأن الإفراط فى هذا الاستخدام يعزز إمكانية حدوث تلك المشكلات، ويُعقد الجهود المطلوبة للحد منها.
وفى مقابل تلك البحوث، فإن دراسات ميدانية عديدة، أُجريت فى بيئات شتى، خلصت إلى أن الأطفال واليافعين من مستخدمى وسائط «التواصل الاجتماعى» يقبلون على الموضوعات التى تثير العواطف الحادة فى منشورات تلك الوسائط، وقد وُصف هذا الإقبال مرات عديدة بأنه يمكن أن يكون «مرضياً».
كما وجد الباحثون أن هؤلاء الأطفال يتأثرون بالمنشورات التى تثير لديهم مشاعر مثل القلق، والصدمة، والرهبة، عبر استثارة مناطق معينة فى الدماغ، بشكل يتشابه مع تأثير الحصول على المال، أو المكافآت والهدايا الضخمة، أو تناول الشيكولاتة، وهى محفزات تصف بدقة ما يفعله هرمون «الدوبامين».
لقد أدت وسائط «التواصل الاجتماعى» أدواراً إيجابية فى عملية التعليم والتنشئة بالنسبة إلى الأطفال وتلاميذ المدارس واليافعين، لكن هذه المزايا، التى لا يمكن إنكارها، لا توازن المخاطر المتولدة عن التلاعب بالحالة الصحية والعقلية والنفسية لهؤلاء الأطفال.
وبسبب أنموذج الأعمال الربحى الذى يحكم عمل هذه الوسائط، وتوظيفها المسرف للخوارزميات، برفقة مفاعيل آلية التصفح المستمر، وتسخير تجليات «الذكاء الاصطناعى» المبهرة فى إثراء المحتوى وعرضه، سيكون الأطفال واليافعون عرضة للمزيد من المخاطر العقلية والنفسية والاجتماعية، وهو الأمر الذى يستوجب جهوداً حكومية وتشريعية للتعامل معها والحد منها.