كسرت نتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، هيبة صناعة استطلاعات الرأى، وأفقدتها مصداقيتها أمام الرأى العام سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، كما كشفت تلك الانتخابات أيضاً الغطاء عن وهم الحياد الإعلامى الذى طالما صدّع الغرب رؤوسنا بقواعده المهنية وشفافيته المزعومة.
وفيما يشبه الإجماع، اتفقت استطلاعات الرأى التى تم إعلانها حتى صباح الثلاثاء الماضى (يوم إجراء الانتخابات)، على تقدم نائبة الرئيس الأمريكى والمرشحة الديمقراطية «كامالا هاريس» بفارق 4 نقاط مئوية على الرئيس السابق والمرشح الجمهورى «دونالد ترامب»، وكانت الضربة القاصمة لمراكز استطلاعات الرأى بإعلان فوز «ترامب» على «هاريس»، ولم يكن فوزاً عادياً، وإنما اكتساح، بعد أن اجتاز «ترامب» الحد الأدنى الحاسم من الأصوات، والمتمثل فى 270 صوتاً من أصل 538 صوتاً فى المجمع الانتخابى، وحصل على 295 صوتاً مقابل 226 صوتاً فقط لـ«هاريس».
ولم يكن هذا الإخفاق هو الأول، وقد تعددت الإخفاقات من قبل، وسبق لمراكز استطلاعات الرأى أن أخفقت فى توقع فوز «ترامب» برئاسة الولايات المتحدة عام 2016، وبالغت فى تقدير هامش فوز الرئيس الحالى «جو بايدن» عام 2020.
كشفت مراكز استطلاعات الرأى عن وجهها القبيح، وإذا كان البعض يرى أن الخطأ وارد فى مثل هذه الأعمال التى تعتمد على الأرقام والإحصاءات، إلا أن الواقع العملى يشير إلى أنها تحولت لآلية للتلاعب بالرأى العام، وتزييف وعى الناخبين، وتوجيههم نحو مرشح أو حزب معين، يكون هو الأكثر إنفاقاً على حملته الانتخابية، والأكثر سخاء مع هذه المراكز، والتى تحكمها فى كل الأحوال آليات السوق، ويتحكم فيها معيار الربح والخسارة.
من الأوهام الرائجة أن استطلاعات الرأى العام قادرة على توقع نتائج الانتخابات، وبالتالى لا غنى عنها للديمقراطية، بينما الحقيقة أن الاستطلاعات تُعتبر إحدى أدوات تزوير إرادة الناخبين من خلال التلاعب بالرأى العام وتزييفه.
فى أمريكا تحديداً، تم الكشف عن مئات الفضائح التى تورط فيها سياسيون ومراكز استطلاعات رأى مشهورة، لإعلان نتائج مغلوطة تروّج لتقدم مرشح معين، مما يدفع الناخبين المترددين ممن لم يحسموا رأيهم للتصويت للرابح المتوقع، اعتماداً على ظاهرة «تصويت القطيع» التى تشير إلى أن المترددين والأقل معرفة وتعليماً يصوتون دائماً لمن يتوقعون فوزه.
فى عام 2012 انتقد محلل الاستطلاعات «مارك بلومنتال» معهد «جالوب» بسبب ما يُعرف بالرقم المحدد سلفاً (وهو الرقم الذى تضعه لكل منطقة بناءً على عدد من العوامل) وأكّد «بلومنتال» أن «جالوب» اعتمد على رقم غير صحيح فيما يخص الأمريكيين من أصل لاتينى، والسود أيضاً، وهو ما تسبّب فى حدوث أخطاء فى نتائج الاستطلاعات النهائية التى لم تُرجح كفّة المرشح الرئاسى «باراك أوباما» الذى فاز بالرئاسة لاحقاً.
ويشارك الإعلام الأمريكى فى هذه الجريمة (تزييف وعى الناخبين) بنشر وترويج نتائج الاستطلاعات وكأنها حقائق مؤكدة، رغم أنها مجرد توقعات، وتقوم كل صحيفة أو محطة تليفزيونية بالتركيز على نتائج الاستطلاعات التى تدعم فرص المرشح الذى تؤيده، وتتغافل تماماً عن الإشارة إلى طريقة إجراء الاستطلاع، ونوعية الأسئلة التى اعتمد عليها، والعينة المستخدمة، وهامش الخطأ المتوقع، ولا تقترب من قريب أو بعيد من الجهة التى أنفقت عليه.
وللحديث بقية.