أسباب عديدة قد تؤدى بالإنسان إلى أن يتحرك ضد نفسه، ويتمرد على ما حباه الله من نعم، ويسعى بسذاجة نحو الخروج من الجنة، من بين هذه الأسباب: الشبع والبطر والجحود، وقد عمل كل سبب من هذه الأسباب عمله فأدى بأهل سبأ إلى زوال النعم التى عاشوا دهراً فى ظلها.
الشبع أحياناً ما يدفع صاحبه إلى اللااكتراث بما حباه الله من نعم، وقد عاش أهل سبأ حالة الشبع تلك، فأدت بهم إلى نوع من التجبر والتجرؤ على الخالق العظيم الذى حباهم بالنعم، فكفروا بأنعمه، وظنى أن مكمن الكفر لديهم تحدد فى الاعتقاد بأن الجنة التى يعيشون فيها من صنع أيديهم، فهم الذين بنوا سد مأرب ما بين الجبلين اللذين تقع بينهما بلدتهم، وهم الذين يزرعون ويحصدون، وهم الذين نحتوا قراهم بشكل متجاور فيما يشبه اللوحة.. حالة الشبع تلك دفعت أهل سبأ إلى النمردة والإعراض، فكانت النتيجة أن عاقبهم الله على ذلك بأن أرسل عليهم سيل العرم فهدَّ السد فوق رؤوسهم، وخرب بلدتهم، وأحال الجنة التى يعيشون فيها إلى غابة شوك.. يقول تعالى: «فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ».
للمصريين مثل لطيف يقول: «الأكل فى الشبعان خسارة»، وهو يقال فى وصف الشخص الذى تُقدم له أصنافاً شهية من الطعام، لكنه يتبطر عليها، لأنه ببساطة ليس جائعاً، مثل هذا الشخص ترى القريحة المصرية أن «الأكل فيه خسارة»، لأنه ببساطة إنسان بطر معيشته، وذلك بالضبط ما حدث مع أهل سبأ حين عاشوا زمناً ناعمين بكل الأطايب، لكنهم ملوها وبطروا معيشتهم، فكانت النتيجة أن زالت من أمامهم، وأراد الله تعالى أن يعيشوا بعدها فى أرض خربة.
عاش أهل سبأ أيضاً جاحدين فضل الله عليهم حين قارب بين قراهم ليأنس الناس إلى بعضهم البعض، فقد دبت بينهم روح الفردية والرغبة فى الابتعاد، وظنوا أن أمنهم وسعادتهم فى ذلك، فما كان من الخالق العظيم إلا أن أزال نعمة القرى المتواصلة المتصلة التى كانوا يتحركون بينها ليالى وأياماً آمنين، وباتت حياتهم بعاداً فى بعاد، فتباعدت المسافات بين عوائلهم وأسرهم ومزقهم كل ممزق، وسار كل فريق منهم فى اتجاه، وكان هذا التشرذم نتيجة طبيعية لما طلبوه هم بأنفسهم، حين سألوا الله أن يباعد بين أسفارهم.. يقول تعالى: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
ما أعمق حكمة على بن أبى طالب -كرم الله وجهه- حين قال: «من كان منكم فى نعمة فليرعها».