ليست الوسطية فى التديّن فقط، إنما فى أشياء كثيرة، منها القيم والتصرّفات والسلوك، الذى وصفه بعض الفقهاء بأنه «المنزلة بين المنزلتين»، حيث تكون الشجاعة مثلاً بين الجبن والتهور. ومنها ما يتعلق بالفكر السياسى، خصوصاً فى معالجته قضية الهوية والملاءمة، أى ما يُناسب مجتمعنا من أفكار وتصورات.
فكل تجمع إنسانى له هويته وخصوصيته وسماته العامة وموروثه الثقافى من الأعراف والتقاليد، وأنماط اعتقاده، الذى تراكم عبر القرون وشكل عقله الجمعى ورؤيته العامة. ومن ثم يصبح الحفاظ على الهوية واجباً، دون جمود أو تكلس، إنما فى ظل انفتاح على ما لدى الآخرين من حكمة ومعرفة وخبرة، وفى الوقت نفسه يتصدّى لكل رافد يسعى إلى طمس هويتنا أو تشويهها أو تشتيتها أو سلبها ركائز قوتها.
هنا يُمكن أن نتحدّث عن حماية القيم العُليا لمجتمعنا المستمدّة من الأديان السماوية، مثل الصدق والأمانة والعمل والتعاون والإيثار، والعمل على مواجهة كل ما يضر بمكارم الأخلاق، ومواجهة الانحرافات فى الفكر والسلوك، ومحاربة الجريمة بأشكالها كافة.
لا يعنى هذا المناداة بالاتباع أو التقليد أو الجمود، أو تحصين التراث الدينى والفكرى والموروث الاجتماعى من النقد والمساءلة والمراجعة، أو غلق باب التفكير والاجتهاد، أو تقديم الرواية على الدراية، إنما الاعتزاز بكل ما ثبت بالعقل والبرهان أنه جدير بالاعتزاز، فنستفيد منه، ونبنى عليه، ونُطوره ونُحدثه، ونؤسس فوقه، مدركين ينابيعه البعيدة، وروافده المتعدّدة، التى تنتمى إلى الطبقات الحضارية المصرية الثلاث المتتابعة تاريخياً: الفرعونية والمسيحية والإسلامية، أو التى نهلت من حضارات وثقافات أمم أخرى تفاعلنا معها عبر الزمن.
ومن التوسّط أيضاً ذلك التوازن بين الحريات العامة والحريات الشخصية، والميراث الأخلاقى والثقافى، والتوازن بين الحق فى تغيير كل ما يثبت عدم جدواه، والتمسك بكل ما يحوز جدارة من أفكار وقيم وأنماط سلوك.
وإذا حدث اختلاف أو تنازع أو اضطراب بين الحرية الفردية والضوابط العامة المفروضة على التفكير والممارسات، يجب الانحياز إلى قيمة الحرية وطرائقها، لأنها قادرة على تصحيح مسارها، وإعادة التوازن الاجتماعى من جديد عن نقطة صحيحة وعادلة ومفيدة وطبيعية، دون افتئات ولا تكلّف ولا تصنّع، فالحرية فى جوهرها قادرة على اكتشاف أخطائها بنفسها، والتخلص منها ذاتياً، وتصويب طريقها فى ظل يقظة الدستور والقانون، ووعى أفراد المجتمع بحقوقهم وحرياتهم.
إن نقطة الوسط التى علينا أن نختارها بوعى ودراية تقوم على جمع ومزج خلَّاق بين طرفى معادلة مستقرة، الأول هو الانحياز للمستقبل، وهذا لن يتم إلا بصيانة الحريات العامة والخاصة، واستقرار التوازن بين المسئولية والسلطة، والتعادل بين الحرية والانضباط، والأخذ فى الاعتبار كل ما أنجزه المصريون جيلاً بعد جيل، من قيم حضارية، تضمّنتها وثائقهم الدستورية، ونظمهم القانونية.
والطرف الثانى هو الانحياز العقلانى لمقوماتنا الحضارية بطبقاتها الثلاث المتعاقبة فى الزمن، والتى شكّلت عقل المصرى ووجدانه، وصنعت إسهامه فى الحضارة الإنسانية، والتى لا تزال إلى اليوم محل اعتراف وتقدير من الراسخين فى العلم والمعرفة، فى مشارق الأرض ومغاربها.
من التوسّط أن ننحاز إلى المستقبل دون إغفال الجذور والأصول والثوابت والأوتاد الراسخة، ونلتفت إلى كل هذا، ونعتز به، لا لننكفئ عليه، ولا لنكتفى به، ولكن لنستمد منه روحاً وثّابة، وحافزاً قوياً للانطلاق إلى الأمام.