تعد سلمى أحمد قاسم جودة – هذا اسمها بالكامل، وهي ابنة نقيب الصحفيين الراحل أحمد قاسم جودة – إحدى أكثر الكاتبات إحساسا بالأماكن وبالأشخاص الذين يطرقون ويعمرون تلك الأماكن.
عرفت سلمى عن قرب عندما كنت رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة، إحدى أقدم المجلات حاليا في مصر، وهي صحفية مرموقة بالمجلة، وكانت تكتب مقالا على مساحة صفحتين في كل عدد من المجلة تجول فيهما داخل عقل القارئ بثقافة مدمجة عربية فرنسية متقنة لا تجور إحداهما على الأخرى فكانت تمنح القارئ مزيجا من المتعة الشرقية والغربية.
طرحت سلمة كتابها الذي صدر بعنوان «ذاكرة المتعة» مشيرة في إهدائها إلى جدتها جورجيت زنانيري – السيدة المليحة صورتها في ذاكرتي مرصعة بزهور الليلك – علمتني التلذذ بذائقة الثقافة الفرنسية، الانفتاح على الآخر والإرادة المحملة بصلابة ونعومة الحديد والحرير.
وجاء الكتاب الذي جمع بين سرد الرواية ورصد الذاكرة ناعما مثل سلمى متسللا داخل ثنايا عقول القراء ليكشف عن صفحات رائقة عن مصر الجميلة.
في مقدمة كتابها تقول سلمى: «لوعة النوستالجيا وغوايتها تحضني على الكتابة، أقتفي أثر الأمس المدبر، نحن المعذبون بالحنين بالنسبة لنا النفي الزمني أبشع أنواع النفي، سوف أتقن الهجرة الزمنية، سأحاكي إيزيس التي لملمت أشلاء أوزوريس المبعثرة، وأنا ألملم أشلاء الذكريات المتشظية، أقاوم المحو، أرمم الطبقات الزمنية وأضمد الفجوات بالمخيلة الثملة بما كان وما لم يكن».
ترسم بالكلمات مشاعرها وهي التي تعشق الزمالك، تلك الجزيرة الفاتنة بشوارعها وأشجارها الباسقة ومحلاتها التي احتوت ذكرياتها، البنايات العريقة، الفيلات بحكاياها وأسرارها موصدة أبوابها، أنهكها الزمن، آه لو أن الرجوع في الزمان ممكن مثل الرجوع في المكان، كما قال نجيب محفوظ.
الآن أرتدي إلى طفولتي، جروبي جنة الحواس، رائحة القهوة والفانيليا، الكاكاو الساخن، قامات مصر الشهيرة في المحل الذي يمثل الولع العائلي، نادي الجزيرة، نادي السيارات، مدرستي ليسيه الحرية، الإسكندرية عاصمة الحنين الكونية، البحر الليلي بأمواجه الفائرة، البحر يلفظ أحشاءه، أتذكر دوما كلمات شاتوبريان: «القطيعة مع الأمور الواقعية أمر سهل ولكن مع الذكريات!!».
عرجت سلمة على مصر الجميلة وأماكنها الراقية، وتذكرت أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وتحدثت عن الحب والفن والعلاقة بينهما وعن غزل البنات في عمارة الإيموبيليا وعمارة يعقوبيان وعمارة عبدالحليم.
رحلة ذكريات فيما يزيد على 160 صفحة سجلت فيها ليس حنينها لماضيها فحسب وإنما سجلت أماكن وشخصيات مصر الجميلة.