يبدأ الحديث عن انتفاضة البراق، بوصفها الأولى فى تاريخ فلسطين الحديث، بتناول «العصبة القسامية»، التى تُنسب إلى عز الدين القسام، وهو الرجل الذى نقل خبرته فى مقاومة الاستعمار البريطانى إلى مصر، والاستعمار الفرنسى إلى الشام، والاستعمار الإيطالى إلى ليبيا، إلى مواجهة الاحتلال البريطانى لفلسطين، ومواجهة العصابات الصهيونية التى يُمهد لها الطريق للاستيلاء على البلاد.
قدم القسام من سوريا، مطلع عام 1921، وأقام فى حيفا، مقر الأسطول البريطانى، وتواصل مع العمال والفقراء من سكان المخيم الذين أخرجتهم العصابات الصهيونية من بيوتهم، ليبدأ فى توعيتهم بالدور المتواطئ الذى يلعبه الإنجليز، ويحذرهم من الهجرات اليهودية المتواصلة.
لم يبدأ القسام بحمل السلاح ضد الاحتلال مباشرة، إنما شرع فى بناء قاعدة اجتماعية، توسل فيها بالتدريس، ومحو الأمية، وإلقاء المواعظ والمحاضرات الدينية فى مساجد حيفا، ثم صار إمام جامع الاستقلال، بعد استقالته من التدريس، ثم افتتح فرعاً لجمعية الشبان المسلمين فى المدينة وترأسه حتى عام 1928.
أنشأ عز الدين «العصبة القسامية»، وهى عبارة عن مجموعات تقاوم الاحتلال البريطانى سراً، كان يختار أفرادها بعناية، ويحرص على ألا يلفت انتباه الاحتلال البريطانى والجماعات الصهيونية. وانخرطت هذه العصبة فى شنّ هجمات ضد الإنجليز، دون أن يعرفوا من أين تأتيهم الضربات، حتى أعلن القسام نفسه عن وجودها عام 1935.
وإثر الإعلان لم يتّهم القسام من قِبل الإنجليز سوى بالتحريض، إذ لم يربطوا بين عصبته هذه والهجمات التى وقعت ضدهم. وحتى حين اندلعت ثورة البراق فى 15 أغسطس 1929 دفاعاً عن القدس، لم يكتشف الإنجليز مشاركة القساميين فى الأحداث، لكن استمرار عملها جعل الشكوك تساور الإنجليز، مع توالى العمليات ضدهم فى حيفا، فاستدعت الشرطة القسام وأجرت معه تحقيقاً، لكنها لم تجد أدلة كافية لإدانته. وفى أكتوبر 1935 خاطب القسام الناس من فوق منبر جامع الاستقلال، قائلاً: «أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون».
وفور انتهاء خطبته توجّه إلى جنين، وانتقل منها إلى قرى كثيرة برفقة بعض رجاله، وكانت قوات الاحتلال تتعقبه، حتى عرفت مكانه فهاجمته فى 19 نوفمبر 1935 وهو وسط عشرة فقط من أتباعه، فرفض الاستسلام، وقاتل ساعات حتى مرقت رصاصة إلى جبينه فوقع شهيداً، ليخرج الآلاف فى جنازته، لكن دعوته لم تمت، ظلت كلماته تتردّد، ونصائحه تُعاد، ودعواته يُستجاب لها، حتى اندلعت ثورة 1936.
وتُعد انتفاضة البراق هى أول احتجاج واسع نظّمه الفلسطينيون، وكانت رفضاً لتهويد القدس بتواطؤ الانتداب البريطانى. وبدأت بوقوع اشتباكات بين العرب واليهود عند حائط البراق، غربى المسجد الأقصى يوم 15 أغسطس 1929.
وكان اليهود قد عمدوا بتواطؤ البريطانيين على تغيير معالم القدس، ونظموا بعد عشر سنوات من بدء الانتداب مظاهرات عند حائط البراق، ووضعوا أشياء تتعلق بطقوسهم قربه فى «يوم الغفران»، بعد أن اشتروا منازل لصيقة به، وراحوا يتخطون الحقوق والحدود التى كانوا يتمتّعون بها طوال العهد العثمانى.
ودعا المجلس الإسلامى الأعلى برئاسة محمد أمين الحسينى فى الأول من نوفمبر عام 1928 إلى مؤتمر لمناصرة القدس، فشارك فيه 800 شخصية شملت فلسطين وبلاد الشام. وطالب المؤتمرون المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها بمخاطبة بريطانيا وعصبة الأمم لوقف الاعتداء على حائط البراق، ثم شكّلوا جمعية لحراسة المسجد الأقصى، فأيّدت لندن رأى المسلمين، ولذا خاطب الحسينى حاكم مقاطعة القدس، يرجوه تنفيذ قرار بالتزام اليهود بما كان لهم أيام العثمانيين فقط.
نظم اليهود مظاهرة ضخمة عند حائط البراق فى 14 أغسطس 1929 بمناسبة ما سموها «ذكرى تدمير هيكل سليمان»، ثم خرجوا فى اليوم التالى إلى شوارع القدس، فلمَّا بلغوا حائط البراق، هتفوا «الحائط لنا» وأطلقوا السباب فى وجه المسلمين، فى حماية الشرطة البريطانية. وحلّت ذكرى المولد النبوى الشريف فى اليوم التالى، فتوافد المسلمون بغزارة للدفاع عن حائط البراق، فوقعت مشاحنات وصدامات بين الجانبين، سُرعان ما عمّت أغلب أرض فلسطين.
لكن القوات البريطانية تمكنت من السيطرة على الموقف وقدّمت ألفاً من العرب والفلسطينيين إلى المحاكمة، وحُكم على 27 منهم بالإعدام، بينهم يهودى واحد كان شرطياً قتل أسرة عربية كاملة فى يافا، ثم خفّفت الأحكام إلى السجن المؤبد عن 23 عربياً، وإعدام ثلاثة فقط، ثم سنّت مواد فى قانون العقوبات تحت بند «جرائم إثارة الفتنة».
ودفعت انتفاضة الفلسطينيين عصبة الأمم إلى تشكيل لجنة فى 14 يناير 1930 اقترحت بريطانيا أسماء أعضائها، للبت فى الخلاف بين المسلمين واليهود، فانتهت إلى الوضع الذى كان قائماً أيام العثمانيين.