ليس لدى أى ضمانات لاستمرار هذه الحالة، كونها غريبة مستغربة، فهى مزيج بين الرضا وعدمه، الاقتناع والإنكار، الأمل واليأس، خاصة أنها مجتمعة فى لحظات واحدة، وأوقات متقاربة، الصباح حيث العقل والتعقل أنظر إلى مشروعاتى وأنا أودعهم فى رحلة المدرسة باعتبارى أبنى غداً مشرقاً آملاً صبوحاً، وفى المساء أجلس إلى مشروعاتى جلسة الأمومة الحميمة مع صغار حرفوا الدين واللغة والمنطق، تتغير نظرتى ومشاعرى، آراهم غزاة فى معركة الانتماء، أنكر أبنائى وأنكر على نفسى أفعالى معهم، وأرتد إلى مساحة من الأسئلة الوجودية «أيتعلمون.. أم يتثعلبون؟» وبلغة صغيرتى التى ما زالت تمارس القلب المكانى للحروف رغم أنها على شفا حفرة من شهادة «هو تعلم أم تملعن؟».
جريمة كبرى ارتكبت فى حق أمهات هذا الجيل، وربما جيل سبقنا وأجيال لحقتنا، ألا وهى أننا تحولنا إلى طرف من أطراف العملية التعليمية، كانت ونحن أطفال قاصرة على مدرس يمثل المنهج ومَدرسة تمثل الوزارة وتلميذ يمثل المواطن والمستقبل، اقتصر دور أمهاتنا على ممارسة الدعم النفسى والمادى، المساندة، الدعاء، أطعمة تحث الجسد على البقاء والعقل على الفهم، كان للجبنة بالخيار مفعول السحر، إما إقبالاً عليها أو هروباً منها، وكنا مسئولين، أو هكذا ولدنا، لدينا حلم وطريق وسعى، تعيننا الأمهات عليه، ليس مهماً أن تنطق أمى ما أنطقه، أو تكتب ما أكتبه، المهم أن توفر لى المناخ الذى يساعدنى على الكتابة والنطق.
أكثر من دليل يؤكد قولى، فالرعيل الأول من عظماء هذا البلد ولدوا لأمهات أميات، لا يقرأن ولا يكتبن، لم يجلس أحدهم إلى أمه لتذاكر له وتسترجع معه دروسه، لم تذهب أم أحدهم إلى المدرسة لمتابعة أدائه أو نشاطه أو مستواه، لم تحضر معه درساً لتفهم القاعدة الأصلية حتى تساعده وتشرحها له فى المنزل.. من الذى قذف بالأمهات فى هذه الدوامة، من الذى وضعنا فوق فوهة البركان، مجرد نشاطه أذى، فما بالك بانفجاره ونحن على رأسه؟
وفى هذا التدخل والإقحام المتعمد لأمهات هذا الجيل على العملية التعليمية، محاولة غريبة الشكل وبلا منطق لوضع مهمة جديدة على كتف الأمهات، وكأنها لا تعانى من مهامها الأصلية، وكأنها أدتها على أكمل وجه فيبقى لها أن تشارك فى صلب العملية التعليمية بالاستذكار لأبنائها، وهى المكلفة طواعية بمهام الزوجة الحنون والأم المربية الفاضلة والعاملة التى تعين زوجها على الحياة، وإذا أرادت بعد كل هذا أن تتحقق وتتمكن، فلها ما أرادت بما لها من إرادة.
من فعل بنا هذا؟.. أبحث عنه باستماتة لأهرب من نظرات الاتهام التى تلاحقنى، كونى لست أماً بالمعايير الجديدة التى وضعوها للأمهات، كيف لا أحفظ مناهج ابنى، كيف لى أن أرسله للمُدرسة كى تشرح له ما استصعب عليه، أى جحود أمارسه على الصغار، كيف لى أن أنطق الإنجليزية بالطريقة التى تعلمتها قبل 30 عاماً، فى حين أن ابنتى تنطق إنجليزية جديدة على كلياً؟.. كيف أترك تربيتهم التى هى مهمتى الأولى والأصيلة، وأتفرغ لتعليمهم دون تأهيل يساعدنى على هذا ودون أن يكون التعليم مهمتى الأولى معهم؟
فى جلستى إلى المنطق، أرى زرعتى وقد أثمرت، أطفالاً يفكرون بطريقة مبتكرة، مختلفين فى كل شىء، ورغم رفضى لاختلافهم، لكن صوتاً داخلياً ينطلق «يا ريتنى كنت زيهم».. لكننى فى جلستى إلى نفسى أكاد أبكى، أم عاملة لطفلين وعضوة صامتة فى 6 جروبات رسمية لفصولهم، وجروبين للنميمة على المدرسين، وقرابة 11 «جروب» للمواد التى يحصلون فيها على «برايفت»، كيف أحافظ على صحتى وسلامى وأبنائى وسط كل هذا؟
لذا.. أقترح وضع كل عناصر العملية التعليمية فى حوار مجتمعى، ليتعرف كل على دوره ويلتزم به، وأهم طرفين هما المدرسون وفئات الطلبة على اختلافها، سواء مراحل عمرية أو فئات اجتماعية تعبر عنها طبيعة المدارس التى يدرسون بها، حكومى وخاص ولغات ودولى، فى القاهرة والمحافظات، من الابتدائى وحتى الثانوى، على أن توضع معايير لاختيار الطلبة المشاركين، وأن يتم هذا الحوار فى إطار الاحتفال بعيد الطفولة، ليجنى ثماره مضاعفة.
ملحوظة.. أرجو منع مشاركة الأمهات فى الحوار المجتمعى، كى يكتمل.