فى الفيلم الأمريكى «ذا بوست» The Post، الذى عُرض لأول مرة عام 2017، وحقق نجاحاً جماهيرياً وفنياً كبيراً فى عديد البلدان، يظهر بوضوح هذا الشعور السلبى الذى يبديه بعض القادة تجاه وسائل الإعلام التى تعمل بانفتاح، وتسعى إلى نشر الحقائق، وتؤثر تأثيراً كبيراً فى الرأى العام.
والشاهد أن العلاقة بين بعض القادة السياسيين والإعلام علاقة شائكة ومُعقدة، لدرجة أنه يمكن استخدام المثل الشعبى السائر: «لا أحبك، ولا أقدر على بُعدك» لوصف أبعادها الملتبسة، التى تعرف العداء السافر أحياناً، والشراكة والتعاون أحياناً أخرى، فكثير من القادة لديهم وسائل إعلام مُفضلة، وإعلاميون مقربون، وهم يحبون ظهور صورهم على الشاشات، وفى صدر الصفحات الأولى، وعلى أغلفة المجلات، ويتعلقون بها، ويتمنون لو ظلوا يتحدثون إلى الجمهور عبر «الميديا» ليلاً ونهاراً، لكنهم لا يحبون سماع الصوت الآخر، ولا كشف الخلل والعوار فيما يفعلون.
وربما يقدم هذا المثل الوصف الأكثر تجسيداً لطبيعة العلاقة التى تجمع ما بين كثير من القادة السياسيين ووسائل الإعلام؛ فمن جانب يرى قطاع من هؤلاء القادة أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً فى تعزيز مصالحهم، أو مصالح أوطانهم، ومن جانب آخر، فإن عدداً كبيراً منهم يعتقد أن بعض الممارسات التى ترد عبر هذه الوسائل يمكن أن يضرهم أو يقوض جهودهم، والأخطر من ذلك أن بعضهم يغير آراءه تلك باستمرار، ومن ذلك، أن الزعيم السوفيتى الراحل «خروتشوف» اعتبر الصحافة «سلاحاً» فى المعارك التى تخوضها بلاده، كما أن «جوبلز»، وزير دعاية «هتلر» الشهير، رأى أنها مثل «المدفعية» التى تقصف المجتمعات المستهدفة، فتوطئ للهجوم المادى، وتشل القدرة على المقاومة.
لا يقتصر الأمر على مديح الصحافة فقط عندما تمعن فى لعب الأدوار الدعائية التى تساند طموحات بعض السياسيين، لكن ثمة من أظهر الإخلاص فى الدفاع عن مناقبها وأهميتها للمصلحة العامة؛ ومن بين هؤلاء الزعيم التاريخى الأمريكى جورج واشنطن، الذى قال فى هذا الصدد: «إذا سُلبنا حرية التعبير عن الرأى، فسنصير مثل الدابة البكماء التى تُقاد إلى المسلخ».
وعلى الجانب الآخر، عبّر ساسة كبار عن عداء شديد للصحافة؛ منهم السلطان عبدالحميد، الذى قال من منفاه بعد عزله: «لو عدت إلى يلدز، لوضعت محررى الجرائد كلهم فى أتون من الكبريت»، وكذلك فعل القيصر نيقولا الثانى؛ الذى قال: «جميل أنت أيها القلم، لكنك أقبح من الشيطان فى مملكتى».
أما القائد الفرنسى نابليون بونابرت فقد نُسب إليه فى إطار رؤيته للصحافة هذا القول: «أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتى لمائة ألف حربة»، بينما شنت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر هجومها الأشهر على وسائل الإعلام، فى ظل مواجهة بلادها هجمات مسلحة من الجيش الجمهورى الأيرلندى، حين قالت: «الصحافة توفر الأكسجين للإرهاب»، يبدو أن معظم هؤلاء القادة لم ينظروا إلى الإعلام سوى من زاوية واحدة تبدو شديدة الضيق، وهى زاوية تتعلق بقدرتها على خدمة مصالحهم الآنية ورؤاهم الصارمة فى أوقات محددة.
ويبدو أيضاً أن ذلك هو بالضبط ما يحكم علاقة الرئيس الأمريكى المنتخب تواً دونالد ترامب بالإعلام؛ الذى أظهر ولعاً شديداً به عندما كان مجرد رجل أعمال من خارج عالم السياسة، قبل أن يقول، فى عام 2017، إن منصة «تويتر» («إكس» حالياً) كانت سبباً فى وصوله إلى منصب رئيس الولايات المتحدة فى عام 2016، ليس ذلك فقط، لكن حظر «ترامب» على «تويتر» فى 2021، عقب توجيه اتهامات له بإساءة استخدام المنصة.
وبث أخبار كاذبة وإفادات تحريضية عبرها، قاده ببساطة إلى تطوير منصته الخاصة «تروث سوشيال»، التى أضحت منذ ذلك الوقت لسان حاله، وآلية الاتصال السياسى الرئيسة والحيوية التى يستخدمها على مدار الساعة، واليوم، فإن «ترامب» يحظى بمساندة ودعم جوهريين ومؤثرين من إيلون ماسك، مالك منصة «إكس»، الذى سخّر منصته من أجل فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وفضلاً عن ذلك، فإنه يتلقى الدعم «شاكراً ومُشيداً» من عدد من أقطاب صناعة الإعلام الأمريكية المحافظين، وبعض وسائل الإعلام التى تؤيد الجمهوريين، وقبل أيام قليلة، بدأ «ترامب» ما بدا أنه معركة تصفية حسابات مع بعض وسائل الإعلام الأمريكية، التى اتهمها بأنها «أذاعت أخباراً مُضللة، وشوهت صورته»، من أجل الإضرار بحظوظه، ومساندة منافسته فى الانتخابات كامالا هاريس، فقد أفادت الأنباء بأن «ترامب» بصدد إقامة سلسلة من الدعاوى القضائية ضد عدد من المؤسسات الإعلامية الأمريكية، حيث أرسل فريقه القانونى مطالبة بتعويضات تبلغ عشرة مليارات دولار أمريكى من صحيفة «نيويورك تايمز».
كما أرسل خطاباً مماثلاً لشبكة «سى بى إس»، متهماً إياها بأنها عمدت إلى التصرف كداعم مباشر لمنافسته فى الانتخابات، تشير تلك الأنباء إلى عزم «ترامب» الواضح تصفية حساباته مع ناقديه ومعارضيه فى وسائل الإعلام التى ساندت الديمقراطيين، أو عارضت بعض سياساته وتوجهاته، سواء عندما كان فى السلطة خلال ولايته الأولى، أو عندما ترشح للانتخابات فى الدورتين الأخيرتين، فخسر إحداهما، وربح الأخرى، ليقرر «الانتقام» من «أعدائه الإعلاميين».
ستكون لمعركة «ترامب»، وعلاقته بوسائل الإعلام فى بلاده، فصول كثيرة، وستتفجر خلالها مفاجآت، وستقع صدامات، مع عدد من المؤسسات الإعلامية المرموقة والمهمة، وهو أمر سينذر بمخاطر كبيرة على حرية الإعلام، وعلى صورة الولايات المتحدة كزعيمة مفترضة للديمقراطية فى العالم.