الزمن هو أكبر عامل إضعاف للإنسان، بإمكان مَن يشعر بقوته أن يصد الكثير من الهجمات التى تتوالى عليه، ويخرج من معمعتها أقوى وأقدر، لكنه أعجز ما يكون أمام هجمة الزمن، حين يمضى به قطار العمر، فيضعضع قوته، ويوهن قدرته ويرخى عزمه، ليمسى، وهو الرجل الكبير، طفلًا ضعيفًا أمام مَن رباهم أطفالًا ثم كبروا.
كثيرون ممن امتدت بهم سنوات العمر عاشوا هذه الحالة، بغض النظر عن قيمة أو مقام أو حتى سلطان الشخص، وصدق الله العظيم إذ يقول: «وَمَن نُّعَمِّرهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ»، وسنن الله في خلقه لا تستثنى أحدًا، لأنه سبحانه صاحب العدالة المطلقة.
أخطر وأبرز شخصية في تاريخنا الحديث عاشت تجربة من هذا النوع، غالباً ما يمر عليها الكتاب والمؤرخون مرور الكرام، إنها شخصية الوالي محمد علي باشا الكبير، الرجل الذي جلس رسمياً على كرسي ولاية مصر 43 سنة، من عام 1805 وحتى عام 1848.
تعرض محمد علي للعديد من الضربات خلال الصراعات التي خاضها بحثاً عن السلطة، تمكن من النجاح فيها جميعًا، كما نجح في استيعاب أشد اللحظات القدرية قسوة في حياته، حين مات ولده الأحب إلى قلبه طوسون باشا عام 1816.
الواقعة الأخيرة زلزلت عقل الوالي الكبير ووجدانه، فقد كان يحب ولده جدًا، ويعتبره الأداة الأهم في مشروعه، لكونه قائد جيوشه، رجال الوالى كانوا يعلمون قدر «طوسون» عند أبيه جيداً، وقد وقعوا في حيرة كبيرة حين مات، وتهربوا جميعاً من إبلاغ الوالي بالخبر الفظيع.
بعد الواقعة اعتكف محمد على في حجرته أياماً، يبكي ولده وينادي عليه، لكنه استسلم لقضاء الله وقدره في النهاية، وعبر على الموقف الحزين، وواصل مشروعه، واختار ولده الثاني إبراهيم قائداً لجيوشه، وجعله أداة جديدة لإنفاذ مشروعه، واحتضن أيضاً ابن ولده «طوسون» الأمير عباس حلمي، وتعهده بالرعاية والرباية، ووجد فيه عوضًا عن ابنه الراحل.
توالت الأيام وكرَّت السنون، وواصل الوالي محمد على رحلة النجاح والتحقيق، وكبر ولده إبراهيم مع كل إنجاز يجري على الأرض، لأنه كان الأداة الرئيسية في تحقيقه، حتى بات الرجل الثاني في الدولة خلال سنوات مجد محمد على، وتحول إلى الحاكم الفعلي مع مرور السنين ودبيب الضعف في جسد الوالي الكبير، أما الحفيد فقد عاش طفولة مميزة عامله خلالها الجميع على أنه كبير ابن كبير ابن كبير، فهو الأمير المدلل داخل قلعة الحكم، وأبوه هو الأمير طوسون الذي مات في صباه، وجده هو الوالي الكبير الذي صب في حفيده كل الحب الذي يختزنه لوالده الراحل.
كل هذه العوامل ساهمت في تكريس إحساس عميق بالذات لدى الأمير عباس حلمي، ولّد لديه شعوراً عجيباً بأنه خير من عمه إبراهيم، بل وخير أيضًا من جده الوالي الكبير الذي أسس المشروع وبنى المجد والعز الذي يرفل فيه الحفيد.
لقد كانت بصمات الزمن تترك أثرها على الجميع، فتمنح إبراهيم باشا المزيد من القوة، وترسخ داخل عباس المزيد من الكبرياء وجنون العظمة، وبقدر ما كان الزمن يعطي للابن والحفيد كان يستنزف ويهدر في قوة الوالي الكبير ليدب الضعف في أوصاله.