كثرة السعى أحياناً ما تفقد الإنسان الإحساس بالزمن، فيجد نفسه فى لحظة وقد بلغ من الكبر عتياً، شاب شعره، ووهن عظمه، ولم تعد ساقاه تقويان على حمله، كذلك وجد الوالى محمد على نفسه.
كان ذلك عام 1842، وقد مضى سنتان فقط على توقيع اتفاقية «لندن 1840» التى جعلت مشروعه التوسعى هباء منثوراً، فبعد سنين طويلة من السعى من أجل تكوين إمبراطورية تضم إلى مصر كلاً من الشام والحجاز وغيرهما من الأراضى، تم سلب كل ذلك منه، ولم يعد له سيطرة سوى على مصر وبلاد النوبة.
انتاب محمد على خلال هذين العامين إحساس عميق بالإحباط، ضاعف منه إحساسه بالعجز والشيخوخة، بعد أن ناهز الـ75 عاماً، فقد شعر بعد سنين طويلة من الحرب والكفاح أنه يخسر كل شىء، الأرض التى جمعها وضمها إلى بلاده تسلب منه، والدولة التى عاشت سنين طويلة من التوسع والتمدد مضطرة إلى الانكماش والتشرنق على نفسها، لقد اكتشف أن الجراب الذى جمع فيه المكاسب والمغانم -سنين عدداً- كان مثقوباً، وأن الأشياء كانت تتساقط منه، دون أن يدرى.
عاش محمد على خلال السنوات السبع الأخيرة من عمره إحساساً عنيفاً بالضياع، فقد ضاع العمر، وضاع ما تراكم على مدار سنوات العمر، وأصبح الرجل الذى كان يخشاه الجميع هدفاً لأذى الجميع، فالباب العالى يريد التخلص منه، ويرى أنه مكث على كرسى ولاية مصر أكثر من اللازم، وأفراد الشعب يشعرون بالملل من استمراره والياً على مصر لمدة تجاوز العقود الثلاثة.
وما زال يواصل، أما ولده «الأمير إبراهيم» فيحس أن امتداد العمر بهذا الرجل، الذى هو أبوه، يحرمه مما يعتقد أنه حق له فى أن ينال فرصته للجلوس على كرسى الولاية، أما الحفيد «عباس» فيتربص بجده وعمه الدوائر، ويرى أن الأوان قد آن للتخلص من هذين الشخصين المنتميين إلى الجيل القديم الذى آن أوان دفنه.
وسط بحر متلاطم بأمواج الكراهية والرغبة فى التخلص منه عاش الوالى محمد على سنواته الأخيرة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل بدأت إشارات أخرى كونية تأتيه من اتجاهات عديدة تنذر بالنهاية.
يحكى «ميخائيل شاروبيم» صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر القديم والحديث» أن العديد من الضربات السماوية أخذت تعصف بمصر بدءاً من عام 1258 هجرية (1842م).
فقد نزل على البلاد جراد كثير فعمها وأهلك زرعها، حتى ورق الأشجار العظيمة وكل نبات أخضر، ثم باض وأفرخ حتى غطى وجه الأرض، فوقع الغلاء واشتد الضيق بالناس وعم البلاء وهاجر الناس فراراً من أصحاب الجباية وأعوان التحصيل، وقد كان انبثوا فى البلاد بأمر من الأمير إبراهيم.
يلمح «شاروبيم» إلى أن الأمير «إبراهيم» تعمد الضغط على الأهالى بالضرائب والجبايات خلال هذه الفترة الصعبة حتى يغضبوا على أبيه الوالى محمد على، وهو تلميح ليس فى محله، لأن أول من وضع سنة فرض الجبايات على الناس من أجل تمويل الدولة هو محمد على نفسه.
وبالتالى فقد كان ذلك سلو نظام الحكم العلوى، والشىء العجيب هو تلك الغضبة التى يحكى المؤرخ أن محمد على شعر بها عندما وصل إلى مسامعه وهو فى الإسكندرية أن الأهالى غاضبون بسبب الضرائب والجبايات التى فرضها عليهم إبراهيم باشا.
وقد أصيب نتيجة ذلك بنوع من الهذيان فأخذ يهذى بكلمات تدلل على إحساسه بالعجز أمام المكائد التى يكيدها له ولده إبراهيم والفتن التى يثيرها من حوله من أجل إغضاب الأهالى عليه.لقد باتت كلمات الوالى التى أرعبت الجميع فى الماضى مجرد «هذيان».