نحن مجتمعات تعانى من مشكلات ثقافية عميقة، نحتاج فى حلها إلى إبداع دائم، إلى سيل من التصورات والمقترحات، وعمل مؤسسى منظم، وهنا يقع على عاتق المثقف الكثير، وبوسعه أن يُسهم فى الخروج من نفق التاريخ الذى حُشرنا فيه، شريطة أن ينحاز إلى الحقيقة، ويُخلص لها، ويميل لأشواق الناس إلى الحرية والخيرية والعدالة والكفاية والكفاءة، ولا تكسره الظروف القاسية التى جعلت آخرين يسرقون دوره، أو يقلصونه إلى أدنى حد.
والناظر إلى حال مجتمعنا يجده يعيش أزمة ثقافة وأزمة مثقف معاً، فالثقافة تسيطر عليها المظهرية، وينظر إليها فى أغلب الأحيان على أنها مجرد قلادة زينة، وليست رافعة للتقدم. والمثقف مستقطب بفعل الأيديولوجيات أو الاحتياجات المادية أو استسلامه لتوظيف خطابه فى تبرير السائد والمتاح، بل وتواطؤ الأغلبية مع هذا.
ويتحمّل المثقف جزءاً من مسئولية تدهور الثقافة فى مجتمعه، فهو إن أدرك دوره الحقيقى، وعمل له، كان جدار صد أمام هذا التدهور، لاسيما إن انتظمت الجهود، وتعاونت فى سبيل تحقيق المتعة الجمالية والمنفعة وترسيخ التفكير العلمى. المثقف اليوم مُستلب، فى الغالب الأعم، وهو لا يبذل الجهد الكافى فى سبيل مقاومة استلابه، ويترك رويداً رويداً فراغات، جراء انسحابه، يملأها منتجو المعرفة الاستهلاكية والعابرة التى تخاطب الغرائز، وتحط من الذوق العام، ولا تُبصّر الناس بسُبل حيازة أسباب التحرّر والتقدم.
وهُنا يُثار سؤال: هل هناك تأثير للأدب، بوصفه السمة الغالبة على وصف المثقف فى مجتمعنا، فى تشكيل الفكر النقدى والاجتماعى؟ والحقيقة أن الأدب غذّى بطريقة غير مباشرة، الرؤى النقدية عموماً، سواء بعرضه وقائع ونماذج بشرية حقيقية أضاف إليها الكتاب الكثير من خيالهم، أو خلقه عالماً موازياً. لكن تأثير الأدب فى هذه الناحية يتوقف على مدى اطلاع المفكرين عليه، فمن بينهم الذين كان الأدب بمختلف ألوانه يشكل زاوية ينظرون منها إلى الأفكار السائدة، ويدركون حاجتها الدائمة إلى النقد والتطوير، وهناك من اكتفوا برصد جدل الأفكار مع الواقع المعيش، أو أولئك الذين حبسوا أنفسهم فى عالم الأفكار، يقدحونه ويقلبونه، ويدفعونه إلى الأمام فى رؤى متمرّدة، أو إلى الخلف من خلال الفكر المحافظ المحمول على أيديولوجيات وتصورات دينية ونزعة تبريرية، لاسيما عند المدافعين عن السلطة السياسية.
على مستوى آخر أسهم الأدب فى تغذية الفكر الاجتماعى، كأن يستعين الباحث النابه فى علم الاجتماع بمختلف فروعه بالسرد القصصى والروائى.
ومنذ أن تم اعتماد الأدب كأحد روافد التاريخ، ومنه بالطبع تاريخ المجتمع، صار ملهماً لبعض الرؤى الخاصة بالفكر الاجتماعى.
كما وسّعت الدراسات عابرة الأنواع من توظيف الأدب فى هذه الناحية، سواء فى مصر أو غيرها.
لكن التحول الرقمى يؤثر على الأدب هذا، وهو تأثير يمتد إلى العالم بأسره، لكنه يكون عندنا أشد وأنكى، لأننا حتى هذه اللحظة لم ندخل إلى الحداثة بعد.
وهنا أقول إن الأدب يشتغل على الجمال والتذوق وإشباع الروح، بينما تنتمى التقنيات إلى عالم المادة غالباً.
لا يعنى هذا أن الاثنين فى تصادم بالضرورة، فالتكنولوجيا فى مجال المعرفة أمدّت الأدب بموضوعات وقضايا جديدة، على رأسها الاغتراب والإيقاع الحياتي الجديد، وكذلك بأساليب مختلفة فى الكتابة، يميل بعضها إلى التكثيف والاختزال.
كما خلق التطور فى عالم الاتصال، مع شبكة الإنترنت، فرصاً واسعة للأدباء كى يتواصلوا مع جمهور أوسع، ليس هو بالضرورة الذى كان يقرأ فى السابق الكتاب والمجلة والجريدة، لاسيما مع ظهور الكتاب الإلكترونى والمسموع.
وقد عزّزت ثورة الاتصال أشكال تعبير أخرى غير الأنواع الأدبية المتعارَف عليها، وهى الشعر بمختلف ألوانه، والسرد القصصى والروائى، والمسرح المكتوب والمطبوع، فالآن هناك القصص المحكية فى مختلف الاتجاهات، وألوان من الكوميكس والألعاب الإلكترونية.
ولم يعد الأديب، فى ظل هذا، هو وحده الذى يمتّع ويفيد، بعد ظهور اليوتيوبرز وقبلهم المدونون، ودخول كثير من الجمهور العام على عالم التعبير عن الرأى والموقف أو المنافسة على جذب الأتباع عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
ولا يمنع هذا من توظيف التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى لدعم الثقافة، وذلك حين يعمل المثقفون على ملء الحيّز الذى تخلقه وسائل التواصل الاجتماعى بمعرفة عميقة، ولا يتركون الساحة لهذا السيل من التفاهات الذى يكاد يطمرها.
وهنا تبرز أهمية إنشاء منصات ثقافية جديدة لتعزيز الإنتاج الفكرى والفنى.