أعادت سوريا اللاعبين الإقليميين إلى طاولتها، بعد أن شغلتهم طاولات أخرى، فأيقظتهم حلب على دوى سقوطها فى قبضة حفنة من المتطرّفين المسلحين المتشحين بعباءة الدين، ويُكنون بـ«هيئة تحرير الشام».
وما أكثرها تلك الأسماء الرنّانة المراوغة التى تُدغدغ أحلام الشعوب وتستدرجهم إلى فخ النضال الزائف، الذى أوصل دولاً راسخة فى المنطقة إلى أشباه دول.
واستخدم تعبير «سقوط حلب» مرات سابقة خلال الحرب الممتدة بين عامى (٢٠١٢ - ٢٠١٦)، خلالها تأرجح ولاء المدينة الكبيرة ما بين فصائل المعارضة وقوات النظام، حتى حظى الرئيس بشار الأسد بدعم ثلاثى من روسيا وإيران وحزب الله اللبنانى، فاستعادها النظام السورى تحت سيطرته.
و«هيئة تحرير الشام»، التى استولت فصائلها المسلحة على حلب قبل أيام، ما زالت تُعرف إعلامياً بـ«جبهة النصرة»، رغم تغيير الاسم، وهى تنظيم سلفى جهادى خرج من رحم حواضن راديكالية كبرى، منها «داعش» و«القاعدة»، وانصهرت فيه خمس فصائل كبيرة وست ميليشيات أصغر حجما.
وأعيد هيكلة التنظيم بقيادة أبومحمد الجولانى سنة ٢٠١٧، ليصبح أكبر الجماعات المعارضة للنظام السورى، لا شك أن الضغط الإسرائيلى على سوريا منذ طوفان الأقصى، وضربات مؤثرة قام بها جيش الاحتلال ضد الوجود الإيرانى فى دمشق، ضمن حزمة عوامل شجّعت الهيئة على الإقدام بخطوتها المحسوبة للاستيلاء على حلب.
كما أن الانشغال الروسى بالحرب فى أوكرانيا، والذى قد يُعطل موسكو عن الإسراع فى نجدة نظام بشار الأسد، المحاصر داخلياً بتقاسم السيادة مع فصائل معارضة متعدّدة، وخارجياً بخمسة فاعلين فى المشهد السورى، تتقدّمهم أمريكا وروسيا، وثلاث قوى إقليمية من دول الجوار، إيران وتركيا وإسرائيل.
وقد تقاطعت دوافع أخرى عجّلت بقرار هيئة تحرير الشام، لتنفيذ العملية العسكرية فى إدلب وحلب، والتى تزامنت مع بدء سريان اتفاق الهدنة فى لبنان، الأربعاء الماضى، والذى كان باعثاً رئيسياً على التحرّك قبل أن تتجه أنظار إيران إلى ترتيب أوضاعها فى سوريا بعد توقف القتال على الجبهة اللبنانية، أيضاً مثل فوز دونالد ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية مطلع الشهر الماضى دافعاً لاستباق عودة الرئيس الجمهورى إلى البيت الأبيض.
ومعه تفتح أبواب الاحتمالات أمام إعادة صياغته لدور بلاده فى الشرق الأوسط، وتغييرات جذرية قد تطرأ على تعامله مع الحضور الأمريكى فى الملف السورى.
وأثيرت شكوك كثيرة حول المستفيد الخفى من تحرّك هيئة تحرير الشام، وتأرجحت المنافسة بين إسرائيل وتركيا، فكلاهما صاحب مصلحة مباشرة فى حصار النظام السورى، وتقليص الوجود الإيرانى الداعم لبقائه.
وأتفق مع الإعلامى السعودى عبدالرحمن الراشد، فيما جاء بمقاله بصحيفة «الشرق الأوسط»: بأن الأمر فتح الباب لنظريات المؤامرة فى تفسير الوضع الغامض والمتسارعة أحداثُه.
فالبعض يُشبهه كثيراً بما حدث فى يونيو 2014 عندما سقطت الموصل، ثانى أكبر مدينة فى العراق، واتُّهم حينها رئيس الوزراء نورى المالكى بالتخاذل والسماح لتنظيم داعش باحتلالها.
أما النظرية الأخرى فتتهم تركيا بعد عجزِها عن التفاوض مع دمشق، باللجوء إلى تحريك الفصائل المسلحة فى مناطق نفوذها، فكان أن سيطروا على حلب وإدلب، والثالثةُ أن إيران وحزب الله، بعد حرب لبنان، يريدان حماية وجودهما فى سوريا.
وربما لا نُدرك أثر «سقوط حلب» فى قبضة جماعة متهمة أمريكياً بـ«الإرهاب»!، إلا إذا رجعنا إلى أصداء سقوطها الأول فى ٢٠١٦، كما وصف وقتها الإعلام الأمريكى، حيث هاجمت «واشنطن بوست» إدارة أوباما (الديمقراطية) التى كانت تستعد للرحيل، واتهمتها بالتخلى المخزى عن دعم المدنيين فى حلب.
فالكاتب الأمريكى ريتشارد كوهين افتتح مقاله بالصحيفة قائلاً: «إذا كان 7 ديسمبر 1941 هو اليوم الذى قال فيه فرانكلين روزفلت: سيظل هذا اليوم عاراً إلى الأبد، بسبب هجوم «بيرل هاربور»، الذى نفّذته اليابان. فإن 20 ديسمبر 2016، وهو يوم سقوط حلب، يشبه ما قد حصل فى ذاك التاريخ، ليكون حدث سقوط حلب فى المرتبة الثانية».
وأضاف موضحاً: «صحيح لم يمت أى أحد من الأمريكيين فى يوم سقوط حلب كما حدث فى «بيرل هاربور»، إلا أن اجتماع موسكو الذى جمع روسيا وتركيا وإيران لحل النزاع فى الشرق الأوسط من غير حتى إخطار الولايات المتحدة الأمريكية، كان بمثابة صفعة على نفوذ أمريكا العالمى».
وبعيداً عن تشابكات المواقف الدولية والإقليمية، وتعقيدات المشهد السورى وتراكمات السنوات بأوجاعها وضحاياها وخسائرها، فإنه لا يمكن اختصار حل الأزمة فقط بالاصطفاف خلف الدولة السورية الموحّدة بقيادة الرئيس بشار الأسد، لكن الأمر يتطلب إدراكاً لخطورة ما يتسابق الجميع لتنفيذه دون وعى بمخاطره، إن تقسيم سوريا الذى أصبح واقعاً نعيشه منذ أن تجمّدت الأوضاع بعد عام ٢٠١٧، يستوجب جهداً كبيراً كى لا يتحول إلى حدود مشتعلة يستحيل معها إعادة اللحمة إلى وطن يجب أن يعود موحّداً تحت لواء دولة وطنية سورية رشيدة.