اتسمت شخصية عباس حلمى الأول -حفيد محمد على باشا- بقدر كبير من الغرور والكبرياء، وكانت تنتابه من حين إلى آخر حالة من حالات جنون العظمة، حتى وهو يقف أمام جده الوالى الكبير، وقد حكيت لك ذات مرة أن محمد على دخل يوماً على أمراء العائلة، ومن بينهم عباس حلمى الأول، وكان الأخير يضع ساقاً على ساق، ولم يقم للوالى -كما انتفض بقية الأمراء- أو حتى يعدل من جلسته المغرورة بعد دخول الجد، وحين عاتبه الأخير على ذلك، رد عليه قائلاً أنه أفضل منه، وأن أباه أمير وجده والٍ كبير، أما هو فأبوه وأجداده كانوا رجالاً متواضعى الحال.
وإذا نحّيت هذه الواقعة جانباً متشككاً فى مستوى دقتها، فسوف تجد العديد من الوقائع الأخرى المتنوعة التى تؤكد التركيبة النفسية المعقدة التى عاش بها عباس حلمى الأول. وهى التركيبة التى أسهم فيها إحساسه باليُتم بعد أن توفى أبوه وهو صغير، وتدليل جده محمد على له، وقسوة عمه إبراهيم باشا عليه. أفرط الجد فى رعاية الحفيد وسخا عليه فى الحنان عليه إكراماً لذكرى ولده الأمير طوسون، فى المقابل بالغ العم إبراهيم فى القسوة على «عباس»، الأمر الذى جعل الأخير يفر منه باستمرار، وعندما مات «إبراهيم باشا» كان «عباس» فى الحجاز خارج مصر، هرباً من عمه، الذى كان لا يفوت فرصة لتعنيفه وإهانته إلا ويفعل، ويبدو أنه كان واعياً بالتركيبة الشخصية المغرورة لابن أخيه ويريد تدميرها، لكن القدر لم يمهله لذلك.
مؤكد أن شخصية «عباس» عانت اضطرابات متنوعة، وقد اتسمت شخصيته كما يذهب يعقوب شاروبيم بالميل إلى التشاؤم والعزلة، وكان يؤمن بالسحر والكهانة والأعمال السفلية وغير ذلك، وفى الوقت نفسه كان ميالاً إلى الإنشاءات وتعمير الطرق، وهو صاحب الفضل فى إنشاء حى العباسية وحى العلمية، كما عمّر العديد من مشاهد أهل البيت بالقاهرة، مثل مشهد السيدة سكينة بنت الحسين، وغيره.
وظنى أن الاضطرابات الشخصية التى عانى منها مبررة بظروف نشأته من ناحية وموقف أمراء الأسرة العلوية منه، فالواضح أنهم كانوا يكرهونه بسبب محبة جده له وعطفه عليه، إبراهيم باشا نفسه كان يغار منه فى هذا الجانب. وقد بادل «عباس» أفراد الأسرة كرهاً بكره.. يقول «يعقوب شاروبيم» فى «الكافى فى التاريخ»: وكان عباس شديد البغض لأهله وعمومته وعلى الخصوص منهم أولاد إبراهيم باشا، فضيق عليهم وشدد وبالغ فى تنكيلهم، فضبط أرزاقهم وحبس غلاتهم وشرد أتباعهم وحاشيتهم وأقصى القائمين بأشغالهم، حتى ضاق بهم الخناق وانكمشوا وقل ظهورهم بين الناس خوفاً من الفتنة ورميهم بالتهم الكاذبة.
كأن المؤرخ الكبير أراد أن ينفى تهمة ما عن أمراء الأسرة العلوية وهو يردد هذا الكلام، فعبارة «خوفاً من الفتنة ورميهم بالتهم الكاذبة» تعبر عن واقع ما حدث على وجه التقريب فى واقعة اغتيال الوالى عباس حلمى الأول، فقد قتل الوالى فوق السرير الذى ينام عليه داخل قصره الذى بناه على النيل بمنطقة بنها العسل على يد 4 من مماليكه، ليلحق بجده محمد على وعمه إبراهيم باشا بعد حوالى 5 سنوات من رحيلهما. ومؤكد أن المماليك لم يقتلوه من تلقاء أنفسهم بل بإيعاز من غرمائه داخل «العيلة».
كذلك جاء ختام رحلة الثالوث: الجد والعم والحفيد.