للمصريين مزاج خاص فى النظر إلى الأحداث والأشخاص، وهم يتفاءلون ويتشاءمون، مدفوعين بهذا المزاج أكثر مما هم مسوقون بأسباب منطقية.. ويبقى أن المؤرخين والكتاب كثيراً ما يجدون فى الواقع ما يُبرّر هذا المزاج، وما أكثر ما ربطوا بينه وبين الأحداث التى تتفاعل فى المحيط العام.
الفترة القريبة التى أعقبت تولى الخديو إسماعيل مقعد السلطة فى مصر عام 1863م، ترسم لوحة شديدة الإثارة لهذا المزاج المصرى وتفاعلاته مع الأحداث والأشخاص.
بويع إسماعيل نجل إبراهيم باشا فى اليوم نفسه الذى توفى فيه سلفه الخديو محمد سعيد فى 16 رجب عام 1279هـ (1863م)، وهو الحفيد الثانى من أحفاد محمد على، الذى يتولى سدة الحكم بعد عباس طوسون.
ويحكى «يعقوب شاروبيم» صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر» أن الأفراح عمّت البلاد والعباد لمدة 3 أيام متصلة.
وأنفقت الوالدة باشا أم الخديو إسماعيل الكثير من الأموال على الهدايا، التى منحتها لأرباب الدولة والعلماء والمشايخ، وأقامت الأدعية فى المساجد أياماً، ورسمت بترميم بعض أضرحة الأولياء والصالحين من مالها، تفاؤلاً واستزادة للنعمة.
عبارة خلابة تلك التى وصف بها يعقوب شاروبيم أفعال والدة الخديو إسماعيل بعد اعتلائه عرش البلاد: «تفاؤلاً واستزادة فى النعمة».
لم تكن أم إسماعيل الوحيدة التى فعلت ما فعلت من أفعال البر والخير بعد تولى ولدها الحكم، فقد سبقتها إلى ذلك أم الوالى عباس حلمى الأول (بنبا قادن)، فبنت الأسبلة، وأطعمت الفقراء، ورمّمت مشاهد الأولياء والصالحين.
عباس وإسماعيل هما الآخران تصدّقا ونفحا من حولهما وبذلا المال من أجل ترميم أضرحة الأولياء والصالحين.
كأن «الدروشة» جزء من حالة الحكم الخديوى أو السلاطينى، وهى حالة تخلق لدى صاحبها نوعاً من الاطمئنان والتفاؤل بالمستقبل، فعندما تُقبل الحياة على «بنى آدم» يشعر بالرضا، وهو يمارس الدروشة كنوع من الطمع فى المزيد، وقد يُسقط بعض المنافع فى يد من حوله، مثلما فعلت والدة إسماعيل وابنها، أو والدة عباس حلمى وابنها، طمعاً فى المزيد من العطايا الربانية، لذلك تشتد فى بدايات أى حكم الميول إلى الدعاء، ومشاهد زيارات الأولياء، وصور العطاء للضعاف وهكذا، وربما تختلف هذه المشاهد بعد حين، لكن يبقى أن هذا النوع من الأفعال يأتيه صاحبها وهو يعيش حالة تفاؤل بالمستقبل.
لم يزد ما فعلته «أسر الحكم» الخديوية شيئاً على ما يفعله المصريون عموماً فى المناسبات السعيدة، أو حينما يرزقهم الله بشىء، فما أسرع ما يطلبون من الصغار والضعفاء الدعاء لهم، وما أكثر ما يرتادون مساجد الأولياء والصالحين للدعاء، أو وفاءً لنذور ربما يكون بعضهم قد نذرها إن رُزق بنعمة معينة، وربما تبرع بعضهم أيضاً لترميم دور العبادة وغير ذلك، أو أطعم أو تصدّق بالمال، انطلاقاً من تلك القاعدة التى يؤمن بها المصريون، والتى تقول: «اللقم تمنع النقم».
تفاءل الخديو إسماعيل وأمه ومن حوله بصعوده إلى سدة الحكم، وربما تفاءل أولاد البلد من المصريين بمجيئه، كما يتفاءلون بكل جديد، لكن كما خرج التفاؤل من رحم حدث حزين تمثل رحيل الخديو سعيد عن الحياة، خرج التشاؤم من أحضان الفرحة بتولى إسماعيل، وكان السر هذه المرة فى «قدم السلطان»!