حرص الخديو إسماعيل على توثيق علاقته بحاشية السلطان العثمانى «عبدالعزيز»، أو رجال «المابين»، كما يسميهم «يعقوب شاروبيم»، صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر»، عن طريق الهدايا والعطايا والنفحات المالية وغير ذلك.
وكان لهذه الأدوات تأثير السحر على رجال القصر السلطانى العثمانى، فاقترحوا على «إسماعيل» دعوة السلطان إلى زيارة مصر، وحين وصلت الدعوة أخذ رجال المابين يحدّثون السلطان عن أعاجيب مصر وآثارها، وأغروه بإتمام الزيارة، وقد فرح «إسماعيل» بذلك فرحاً كبيراً، للتأثير الإيجابى للزيارة على مشروعه فى توريث الحكم إلى ذريته فقط من دون جميع أفراد الأسرة العلوية.
بدأ الخديو يُجهز البلاد لاستقبال الزائر الكبير، وبدأت فعاليات الزيارة بعد ما لا يزيد على ثلاثة أشهر من تولى «إسماعيل» الحكم عام 1279 هجرية (1863م).
هبط الموكب البحرى للسلطان شواطئ الإسكندرية، وانطلق السلطان والوفد المرافق له فى شوارع المدينة والذهب يُنثر بين يديه، ثم أقله قطار مخصوص من الإسكندرية إلى القاهرة.
انظر كيف يصف «يعقوب شاروبيم» مشهد دخول السلطان إلى القاهرة: «فلما دخل السلطان قوبل بأحسن مما قوبل به فى الإسكندرية، وشق من وسط المدينة فانطلقت ألسنة العامة بالدعاء له، وصاحوا: نصر الله مولانا السلطان، وزار المشهد الحسينى والزينبى والنفيسى وغيرها، فكان إذا مر بالناس وقفوا صفوفاً إجلالاً وتعظيماً، فينظر إليهم يمنة ويسرة نظرة لطيفة، وهى كناية عن السلام فى عرف سلاطين آل عثمان، وكان العامة والسوقة كلما مر بهم صاحوا «الفاتحة لمولانا السلطان»، فينظر إليهم كأنه يحييهم، فيكثر صياحهم وتشتد جلبتهم، وهى حالة لم يرها السلطان فى بلاده.
رأى السلطان عبدالعزيز من العامة ما لم يره فى بلاده، حفاوة وهتافاً وعدواً وراء موكبه، واصطفافاً على الجنبين لرؤيته.
لم يكن أحد من العوام يعرف الرجل، وكل معلوماتهم عنه لم تكن تزيد على أنه الخليفة الذى جاء من إسطنبول، وظنى أن اصطفافهم لم يكن من باب المحبة، بل كان من باب الذكرى التى قبعت فى أذهانهم وتربط بين مواكب السلاطين ونثر الذهب أو العطايا على الجمهور، الذى يهتف ويحيى، وربما كان أيضاً من باب «الفُرجة»، والمصريون كما تعلم يحبون «الفرجة» منذ القدم، وإلا بماذا نُفسر احتشادهم يوم الزينة، يوم التحدى الذى حكى عنه القرآن الكريم بين موسى وسحرة فرعون؟
المشهد الذى يحكيه «شاروبيم» يقول لك إن العامة والبسطاء كانوا فى غاية الابتهاج والتفاؤل بمجىء السلطان إلى مصر، فى وقت كانت فيه للخليفة فى إسطنبول مكانة لدى المصريين، حتى لو لم يكونوا يعرفون اسمه، فرمزية الخلافة ظلت باقية طوال القرن التاسع عشر، وحتى أوائل القرن العشرين، رغم ما أصابها من ضعف ووهن وشكلانية، لكن «خيار الناس» -كما يقول «شاروبيم»- كان لهم موقف آخر، فقد شعروا بالتوجّس والتشاؤم، بعد الزيارة التى قام بها «عبدالعزيز» إلى مصر، إذ لم يسبق لأحد من سلاطين آل عثمان -بعد السلطان سليم الفاتح- دخول أرض مصر.
لقد تشاءم الخواص أو «خيار الناس» من قدم السلطان.