ظل علماء السياسة وقتاً طويلاً كلما عجزوا عن تفسير ظاهرة أو واقعة أو حدث ما، أو وجدوا فيه، أثناء التفسير، جانباً غامضاً لا ينجلى فى يُسر، أو معقّداً لا يتهادى دون مشقة، عزوا ذلك إلى أسباب ثقافية.
لذا ظل البُعد الثقافى للظواهر السياسية أشبه بالذريعة الخفية، أو الحجة المنسية، أو السبب الذى يُركن إليه حين تتعطل الأسباب الأخرى أو تتعذّر.
لكن الباحثين المختصين فى الثقافة السياسية، المهتمة بفحص المعرفة والقيم والاتجاهات التى تُسهم فى صناعة الظاهرة، والالتفات إليها، والتعامل معها، استطاعوا مع الأيام أن يجعلوا من هذا الحقل الفرعى فى علم السياسة واحداً من الأطر التى يُحال إليها بشكل راسخ فى التفسير والتأويل، ابتداءً من فهم أساليب التنشئة السياسية لمن يصعدون إلى اتخاذ القرارات العليا، وصولاً إلى تحليل الخلفيات الثقافية للجماعات المتفاعلة فى المجال العام.
بل جعلوا منها إحدى الخلفيات المهمة لوجود الديمقراطية من عدمه، وذلك من زاوية أن الديمقراطية ليست إجراءات تضمن «صندوق انتخاب» حراً ونزيهاً وشفافاً فقط، إنما هى، وقبل هذا، سياق حاضن ومنظومة قيم، وتنظيم قانونى وتشريعى، يضمن الحريات العامة، وتكافؤ الفرص، وحقوق الإنسان وصيانة كرامته.
وما زاد من حجية المستندين إلى الثقافة فى التفسير أنها اتسعت فى فهم الباحثين والكتاب وقطاع مؤثر من الرأى العام، فلم تعد مقتصرة على المنتج فى الآداب والفنون بمختلف أنواعها وألوانها، وإنما تمتد من الناحية النظرية لتطوى تحت أجنحتها جانباً مهماً من العلوم الإنسانية، بل الطبيعيات أيضاً، كما أورد لورد سنو فى محاضرته الشهيرة التى أدخل فيها العلوم الطبيعية كجزء أصيل من الثقافة.
ومن الناحية العملية أو الميدانية تضم الثقافة الطقوس ومختلف طرائق العيش، بما يجعل لكل إنسان ثقافته، مهما كان بسيطاً أو مهمّشاً، حيث إن الثقافة فى مفهومها ومضمونها «كل معقّد» أو «مركب»، بوسعه أن يحل فى كل تصرّف أو موقف أو مسألة أو قضية أو ظاهرة، ويسرى فى تاريخ الأمم كما يسرى الدم فى العروق، بل قد يكون هو الروح التى لا نراها، لكن من دونها لا يمكن للجسد أن يبقى حياً، يسعى بين الناس.
وفق هذا التصور الواسع والمتعدّد لا يمكن أن تغيب الزاوية الثقافية فى النظر إلى القضية الفلسطينية، لاسيما حال الأخذ فى الاعتبار الجانب المتعلق بالانفعالات، حيث المشاعر والعواطف ومختلف الوجدانيات، التى تُسهم فى تشكيل القيم والأحكام والمعايير، بل والتوجّهات كذلك، ليبرز الشق الثقافى عفياً، وسط التناول والتداول الذى يحيلها كلية إلى مسائل سياسية وعسكرية واقتصادية وتاريخية ودينية، تُشكل الإطار التفسيرى لها، أو الأسباب الجامعة لفهم طبيعتها، وتتبّع مسارها، وتوقع مآلاتها.
وحين نتحدّث فى هذا فإننا نقصد أمراً أوسع من الاقتصار على الآداب الفلسطينية، لاسيما تلك التى تصنّف على أنها «أدب مقاومة»، من شعر وقصص وروايات ومسرحيات، وأوسع كذلك من الفنون التمثيلية من مسرح ودراما وسينما، وكذلك الفنون التشكيلية من الرسم إلى النحت.
ففى كل هذه الأنواع هناك تعبير عن القضية بطرق متعدّدة، عميقة وثرية من الناحية الفنية، أو مباشرة تنشغل بالتسجيل والتحريض والكيد للعدو.
وما أُنتج فى هذا الخصوص غزير، لا ينقطع، ولا يخف، مع استمرار القضية ملتهبة، ما تكاد تهدأ حتى تفور من جديد.