لم يكن لخوف الناس من مغبة الزيارة التى قام بها السلطان العثمانى عبدالعزيز لمصر أيام الخديو إسماعيل من سبب سوى مسألة «التفاؤل والتشاؤم»، فقد أفتى العرافون والمتنبئون بأن هذه الزيارة غير المعتادة قد يصحبها العديد من الكوارث التى تحدث فوق أرض مصر ويعانى بسببها الناس.
ومن العجيب أن «يعقوب شاروبيم» صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر» حكى أن التوقعات المتشائمة من زيارة السلطان كانت فى محلها، دون أن يلتفت إلى أن ما حكاه من مشاكل واجهت المصريين فى ذلك الوقت بدأت عام 1281 هجرية، أى بعد سنتين كاملتين من الزيارة التى كاد يصفها بـ«المشئومة».
ومن المضحك أن تجد أولى التداعيات المتشائمة من زيارة السلطان العثمانى لمصر وقعت فوق رؤوس البقر وليس البشر.
يقول «شاروبيم»: «ظهر الوباء فى البقر، واشتد وعم جميع البلاد شرقاً وغرباً، ولم يترك قرية ولا كفراً إلا ودخله، واشتد شدة بالغة حتى كاد يفنى جميع البقر، وقل وارد السمن من جميع البلاد وأكل الناس الدهن والزيت».
هل جُن البقر؟ ربما يكون مرض «الجنون» هو الذى ضرب البقر بعد زيارة السلطان عبدالعزيز لمصر، فأصبحت قدرة الأبقار على المشى والقيام صعبة، وباتت تصرفاتها عنيفة، ومزاجها غير رائق، وانتهت هذه المشاهد الحزينة بنهاية الأبقار.
وفى مواجهة هذه الأزمة أمر الخديو باستيراد السمن من البلاد الخارجية -كما يحكى «شاروبيم»- لكن المنتج الخارجى لم يرق للمصريين الذين يؤمنون أن «البلدى يوكل»، وشاء الله أن يزول «نحس السلطان» بعد عدة شهور، ويعقل البقر وينتج خيراته للمصريين كما تعود.ولم تكد تمر أسابيع على هذه الأزمة حتى بوغت المصريون بأخرى، وقد تمثلت هذه المرة فى الغلاء، فقد ارتفعت الأسعار بصورة غير مسبوقة، وانقطع وارد القمح، وبات الناس يلفون عليه فى بولاق ومصر القديمة دون أن يجدوا بغيتهم منه، وكالعادة لجأ إسماعيل باشا إلى الخارج، فاستورد القمح من البلاد الخارجية، كما استورد السمن من قبل، ومع ذلك ظلت الأزمة قائمة حتى أغاث صعيد مصر باقى أهلها بالغلة، مع ورود محصول القمح الخاص بالموسم الجديد.
هدأت الخواطر واطمأنت القلوب لبعض الوقت، لكن سرعان ما تكدرت من جديد بسبب الوباء الذى داهم البلاد سنة 1282، وقد ضرب أول ما ضرب القاهرة ومصر القديمة، ثم امتد إلى سائر أنحاء البلاد، شرقاً وغرباً، ويحكى «شاروبيم» أن الفقراء كانوا يسقطون صرعى فى الشوارع وإلى جوار البيوت، ويجمع رجال الشرطة الجثث من الأزقة والحارات، واستمر الوباء على شدته لفترة طويلة، رغم الإجراءات الاحترازية التى اتخذها المحافظ بإلزام الناس بقواعد النظافة وغير ذلك، ومات فيه الكثيرون (يقدرهم شاروبيم بـ100 ألف شخص)، وهرب العديد من الأجانب وأيضاً من أهل البلاد من الأغنياء إلى الخارج.
علّق الناس مأساة البقر الذى جُن وغلاء الأسعار والوباء الذى ضرب البلاد فى رقبة السلطان، يقول «شاروبيم»: «وخلط الناس وخبطوا، وقالوا إن هذه الكوائن إنما هى ناجمة عن دخول السلطان إلى مصر، إذ لم يسبق لذلك مثيل منذ أن فتحها السلطان سليم بعسكره، واشتد خوفهم وأخذتهم الطيرة وتشاءموا من حاكم الوقت وخشوا عواقب أيامه».
تعلم أن كل شىء فى هذه الحياة بيد الله وبقضائه وقدره، وأن الإنسان منهى عن التشاؤم، ومطالب بالتفكير فى أمور الحياة بما يتوجب عليه من عقلانية، لكن العقل الجمعى لا يستطيع أن ينجو من مسألة الربط بين الأحداث والأشخاص، تماماً مثلما ربط المصريون أيام الخديو إسماعيل بين زيارة السلطان العثمانى وما ضرب حياتهم من أزمات.