فى الغالب الأعم، يتم التعامل مع البعد الثقافى للقضية الفلسطينية بإهمال شديد، مع أنه يُمثل جوهرها، ويحمل جزءاً كبيراً من الحل المنتظر لها، لاسيما إن أخذنا فى الاعتبار أن الثقافة لا تقتصر على الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، إنما هى أشمل وأعمق من ذلك، إذ تحضر، كما سبقت الإشارة، فى الرؤى والتصورات والأفكار العامة والطقوس وطرائق العيش والخبرات والانتماءات والهويات والمخيلات والأحلام والذكريات، وتتجلى فى علاقة الإنسان بالمكان والزمان، وإدراكه لذاته ومجتمعه والعالم حوله، وفهمه أيضاً للطبيعة الإنسانية، سواء فى دخائلها الدفينة أو السياق العام الذى يحيط بها.
بناءً على هذا يُعد إهمال البعد الثقافى فى فهم طبيعة القضية الفلسطينية أو التفكير فى مساراتها ومآلاتها خطأً شديداً، لأن إسرائيل قامت أساساً على ذرائع ثقافية مرتبطة بتأويلات نفعية للنص التوراتى عن أرض الميعاد، وفى المقابل يتّكئ قطاع من الفلسطينيين على تصورات مناهضة، أو تُسهم فى تعبئة جهودهم خلال الكفاح المرير ضد الاحتلال.
والنظر إلى البُعد الثقافى للحرب على قطاع غزة يتطلب، وفق تحليل متمهل، الأخذ فى الاعتبار السياق المتمثل فى الخلفية التاريخية والسياق الاجتماعى الثقافى، لاسيما الموروث الشعبى، ثم تحليل الإبداع الأدبى والفنى من حيث تعبيره عن المشاعر المتقلبة بين خوف واطمئنان، ويأس ورجاء، وفرح وحزن. فى هذا الشأن، يجب فى النظر إلى قضية فلسطين تحليل الهويات الثقافية، وانعكاسها على سلوك الأفراد والجماعات، ومعرفة مدى استجابة المجتمعات المعنية بالصراع والدائرة حوله والمنشغلة به والمتفرجة عليه، ومدى ما ينتجه التضامن من حركات اجتماعية ومبادرات ثقافية وعمليات إعانة وإغاثة، ومقدار تأثير الحرب على غزة فى الثقافة السياسية العالمية. ومن الضرورى هنا أيضاً تحليل الخطاب الإعلامى وتأثيره فى الرأى العام، المحلى والعالمى، من زوايا الإبلاغ والتوعية والتنبيه، والسرديات والصور التى وظّفها لتحقيق هذه الأهداف.
إن الحرب على غزة لا تقف عند حد أن تكون نزالاً عسكرياً، أو عدواناً مسلحاً مفرطاً يقوم به احتلال على سكان إقليم محتل، إنما هى حركة عنيفة تعرض وتبرز الكثير من القضايا الثقافية، مثل مسألة الشعور بالهوية، والانتماء للتاريخ والتراب والأهل، والنضال فى سبيل انتزاع الحقوق والحريات، والانتصار للرمزية التاريخية لغزة، حيث تُمثل للشعب الفلسطينى نموذجاً أو أمثولة ظاهرة للصمود، بينما تُمثل لإسرائيل أحد التحديات الأمنية الشديدة. وهنا يصبح من الضرورى معرفة دور الفنون فى المقاومة، والعناصر التى تُغذى الذاكرة الوطنية، ودور الإعلام فى الحشد والوعى، والتأثير الثقافى والنفسى للحرب على الأجيال الجديدة.
إن إسرائيل تحاول أن تُضفى على القضية الفلسطينية طابعاً ثابتاً مضلّلاً يجعل منها «صراع هويات دينية»، وهو مسلك لا بد من التحذير من الانسياق خلفه، بل يجب الرد عليه بإظهار الجانب الإنسانى للقضية، باعتبارها كفاحاً من أجل تقرير المصير، ونضالاً ضد احتلال استيطانى، ندر وجوده فى العالم المعاصر.
ولا يمكن فى هذا المضمار إنكار أن الحرب الدائرة على غزة أظهرت بوضوح أن قطاعاً من اليهود يقفون ضد الاعتداءات الإسرائيلية، بل بينهم من يعتبر قيام إسرائيل خطيئة دينية وسياسية من الأساس، وإذا كان هناك مسيحيون إنجيليون غربيون يساندون إسرائيل لأسباب تتعلق بإيمانهم ببعض تأويلات العهد القديم، فهناك مسيحيون من الإنجيلية المشيخية لا يؤمنون بهذا، وخرج ملايين الكاثوليك فى أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية فى مظاهرات رافضة الاعتداء على الفلسطينيين.
هنا تتجلى ضرورة أن يمد الفلسطينيون، ومعهم الشعوب العربية المؤيدة لهم، أيديهم إلى اليهود والمسيحيين وأتباع كل المعتقدات، وحتى اللادينيين والملحدين الذين يتعاطفون مع حقوق الشعب الفلسطينى لأسباب إنسانية. ورأى فى الوقت نفسه ضرورة فتح نوافذ التعامل مع فلسطينيى 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعدم اعتبار ذلك تطبيعاً، وهى مسألة تنبّهت إليها أخيراً الحركات السياسية فى العالم العربى.