من زاوية الدراسات الثقافية، يمكن القول إن حرب «طوفان الأقصى» تعيد تشكيل صورة إسرائيل، فيعى العالم جيداً أنها تمارس «الاحتلال التقليدى» الذى قام قروناً فى الحقب الاستعمارية، وكانت البشرية تظن أنها فارقت هذا الدرب، كما تعيد الحرب صياغة علاقة الفرد بالدولة فى إسرائيل، إذ أصيبت الدولة الجاذبة الحامية الحريصة على قوة «المخزن البشرى اليهودى» إصابة بالغة، مع استهانة الحكومة الإسرائيلية الحالية بأرواح الأسرى، على النقيض مما كان معروفاً من قبل.
ولا يمكن فى هذا المضمار أن نهمل قدرة المقاومة الفلسطينية على ربح معركة الصورة، مع مواصلة قتل الجيش الإسرائيلى لأطفال غزة ونسائها، بما جعل الناس حول العالم يراجعون الصورة النمطية لإسرائيل على أنها ديمقراطية وسط الطغيان، وحمل وديع وسط قطيع من الذئاب. كما نجحت المقاومة فى تبديد صورة الكائنات الشريرة المتوحشة التى رسمتها لها إسرائيل من خلال حسن معاملة الأسيرات والأسرى الإسرائيليين.
كما لا يمكن أن نهمل موقف أغلب المثقفين العرب لا سيما من أصدروا بياناً ساندوا فيه المقاومة الفلسطينية، واعتبروا طوفان الأقصى نتاج ظلم وقهر طويلين، ودعوا مثقفى العالم إلى أن يتصدوا للعدوان الإسرائيلى، ويدافعوا عن الحقوق الفلسطينية المهضومة.
وأهمية هذا الموقف أنه جاء فى وقت كان هناك من يظن أن الأموال التى أنفقت، والجهود التى بذلت، وسط المثققين لجعلهم يتخلون عن القضية الفلسطينية قد نجحت فى إزاحتها كى لا تكون قضية العرب المركزية.
إن إسرائيل حين تقتنع أن الحل العسكرى لن ينفع فى إجبار الفلسطينيين على التخلى عن مطالبهم، وأن مقولة «أرض بلا شعب» محض وهم كبير، وبذا لن تجد أمامها من سبيل سوى الحل الثقافى، الذى قد يأتى على غرار ما جرى فى جنوب أفريقيا، ويستعيد فى الوقت نفسه تجربة الوجود اليهودى فى تاريخ الشرق العربى عموماً، وفى فلسطين خصوصاً، والذى لا يقارن بما تعرضوا له من نبذ واضطهاد فى الغرب.
لكن البُعد الثقافى للقضية يرسو فى أعماق بعيدة، يمكن التعبير عنها بالآداب والفنون، لا سيما مسار «أدب المقاومة»، باعتباره «الأدب المعبر عن الجماعة الواعية بهويتها، والمتطلعة إلى حريتها، فى مواجهة الآخر العدوانى، محافظة على كل ما تحفظه الجماعة من قيم عليا، وساعية إلى الخلاص الجماعى». كما يقول السيد نجم فى كتابه «أدب المقاومة»، لكن جوهر البعد الثقافى هنا أبعد كثيراً من هذا، ويظل فى حاجة ماسة إلى من يفتش عنه فى إخلاص ودأب، ويزيح أى غبار يتراكم فوقه، فينجلى واضحاً أمام الآذان والعيون، وقبلها الأفهام، التى عليها أن تُدرك أن عمق القضية الفلسطينى ثقافى الطبع والتطبع.
فمن يراجع التاريخ الاستعمارى المظلم يجد أن «المدفع والبندقية ترافقا مع العلم والتكنولوجيا والتبشير، لإخضاع الشعوب المستعمرة، فالمدفع والبندقية لكسر شوكة مقاومة الغزو والاستعمار، والعلم ومنتجات الحداثة لغواية ذوى الفضول والخيال من أبناء هذا الشعب، أما التبشير فهو لإزاحة الثقافة الوطنية والمعتقدات المحلية وانتزاع هذه الشعوب من ثقافتها». وفق قول د. عبدالعليم محمد، وهذه مسائل لا يجب أن تغيب عن الأذهان أبداً فى مقاربة القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها.
فمثل هذا الإدراك يساعد صاحبه على النفاذ خلف الطبقات العلوية أو التى تطفو على السطح، حيث الأحداث الصغيرة التى تقع كل يوم، بل كل ساعة، قبل طوفان الأقصى ومعه، جراء الاحتكاك المستمر، وأغلبه هجوم عدوانى من مستوطنين أو جنود للجيش الإسرائيلى، وصد ورد من قبل الفلسطينيين، سواء كانوا مقاومين أو حتى المواطنين العاديين الذين لا يُتركون لحظة واحدة دون استفزاز المعتدى لهم.
فالبعد الثقافى موجود خلف التصرفات اليومية التفصيلية، التى تشمل ألواناً من العنف الرمزى والمعنوى والمادى، أو حتى الحوار الذى يتم على المستوى العلوى فى تفاوض السياسيين على الطاولات الباردة، أو على المستوى الأدنى فى علاقات العمل والتجارة والتبادل اللفظى فى الميدان الساخن، على ما فيه من هجوم بذىء أو ملاينة وتحايل، أو حتى الإيماءات والإشارات، بل والصمت على مضض.