«لا تجعلوا الحمقى مشاهير» ليس سوى عنوان «هاشتاج» ظل رائجاً بين مستخدمي وسائل «التواصل الاجتماعي»، فى الجزائر، على مدى أسابيع، وقد أتى انتشار هذا «الهاشتاج» ضمن حملة مُمنهجة، استهدفت أمرين؛ أولهما التنبيه إلى أن قطاعاً كبيراً من المحتوى السائد فى تلك الوسائط يحفل بالحماقة، وثانيهما توجيه نصيحة مباشرة للمستخدمين بعدم مساعدة الحمقى فى تحقيق أهدافهم.
وبينما كان هذا «الهاشتاج» يتفاعل فى الجزائر، ويخطف الاهتمام فى بلدان عربية أخرى، كنا فى مصر على موعد مع عدد من الصدمات «السوشيالية» الجديدة، حين قررت سيدتان راغبتان فى حصد مشاهدات، وزيادة أعداد المتابعين، الإدلاء بإفادات عُدت صادمة و«مسيئة للمجتمع وقيمه».
على أي حال، فقد قررت إحدى هاتين السيدتين الإقرار بـ«الخطأ» الذى ارتكبته، وقدمت اعتذاراً، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافياً لوقف إجراءات المحاسبة القانونية لها، ومع ذلك، فإن الاعتذار يظل عملاً إيجابياً، وإن كان غير قادر على محو الإساءة التي تحققت، أو ردع الآخرين عن السير فى الطريق ذاتها.
يعود الفضل فى لفت أنظارنا إلى العلاقة بين وسائل «التواصل الاجتماعي» والحماقة إلى المفكر والروائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو (1932- 2016)، الذى حرص على أن يحذرنا من خطورة تلك الوسائل على الوعى الجمعي والإدراك العمومي، حين وصفها بأنها أضحت «فضاء للحمقى».
ففي مقابلة أجراها إيكو مع إحدى الصحف الإيطالية الشهيرة، عشية رحيله، قال بوضوح إن هذه الوسائط «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من الخمر، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للآخرين، خاصة أن إسكاتهم كان مسألة سهلة، لكن الآن فإنهم يتمتعون بحق التحدث للعموم مثل من يحمل جائزة (نوبل)».
لم يجد أعتى مؤيدي تلك الوسائط ذرائع كافية لنقض كلام أمبرتو إيكو؛ إذ يبدو أن تحولها إلى فضاء لـ«البلهاء» أو «الحمقى»، بحسب وصفه، بات محل توافق واسع من جانب المستخدمين، كما أن بعض الذين يديرون تلك المنصات ويحققون الأرباح الخرافية من تفاعلاتها النشطة، باتوا يعترفون عملياً بصحة هذه الفكرة، خصوصاً عندما يحاولون إرساء المعايير المحددة للتفاعل عبرها، أو يقيدون بعض العبارات وحقوق الاستخدام، فى حال خرق «الأكواد» التى يقولون إنهم «يجتهدون» لتفعيل أثرها.
إن الخطوة التي أقدم عليها ناشطون جزائريون من أجل تحجيم انتشار راغبى الشهرة الذين يستخدمون المقاربات المأفونة والحمقاء من أجل تحقيق الرواج، تعزز الآمال فى ظهور مبادرات طوعية جديدة بين مستخدمي الوسائط للحد من انفلاتاها الضارة.
ستمثل تلك المبادرات الطوعية، فى حال استمرارها، نمطاً من أنماط «التنظيم الذاتي» للمستخدمين، استناداً إلى مفهوم «المسئولية الاجتماعية»، وهو نمط مطلوب وحيوي، فى ظل إحجام مشغلي تلك الوسائط عن اتخاذ خطوات جادة للحد من الحماقات التى تُرتكب عبرها.
فمن الضروري تشجيع مستخدمي وسائط «التواصل الاجتماعي»، خصوصاً من الشباب، على تبنى آليات «التنظيم الذاتى» لأدائهم على تلك الوسائط؛ ومن بين ما يمكن فعله فى هذا الصدد، وضع آليات لفضح الأخبار الزائفة والتعليقات المسيئة التى تدعو إلى الكراهية والعنف، واتخاذ إجراءات المقاطعة الفورية ضد المستخدمين الذين اعتادوا نشر الشائعات والمحتوى الضار؛ فضلاً عن إبلاغ إدارات تلك الوسائط بتلك المخالفات.
لقد طرأت تغيرات حادة وعميقة على البيئة الاتصالية المحلية والعالمية، وبسبب تلك التغيرات أضحت عمليات انتقاء الأخبار رهينة لاعتبارات جديدة، وعلى عكس ما جرى منذ نشأت صناعة الأخبار، فإن قطاعاً كبيراً من تلك الاعتبارات بات يعكس درجة عالية من الابتذال والإسفاف وخطل إرساء الأولويات.
فالشاهد أن تلك البيئة الاتصالية التى استسلمنا لأخطر ما بها من نزق، وعزفنا عن عديد الفرص التى منحتنا إياها، راحت ترسى آليات جديدة لصنع المكانة والشهرة واحتلال المساحات البارزة فى وسائل الإعلام «التقليدية» و«الجديدة».
ومن بين أهم تلك الآليات التركيز على المواقف والأقوال الحادة والمثيرة للصدمات، وحبذا لو كانت تتضمن هجوماً أو تشهيراً، أو تنطوى على قدر لافت من الإباحية والبذاءة، أو تطرح مقاربة يعرف من يطرحها أنها ستفجر الكثير من الجدل والانتقاد، من دون أن تنطوى على أى بعد موضوعى أو براهين كافية.
ومن بين تلك الآليات أيضاً أن تنطوى التصريحات والتغريدات و«البوستات» المطروحة على قدر كبير من التفريط فى الخصوصية، فكلما جرى إهدار الخصوصية وتسليعها وطرحها على العموم، تم تحقيق الرواج المطلوب، وسعت وسائل الإعلام المختلفة للتغطية، طمعاً فى حصد المتابعة وتحقيق العوائد.
أما آلية التسلق على أكتاف المشاهير، فتحقق بدورها رواجاً كبيراً؛ إذ يعمد بعضهم إلى مراقبة حسابات المشاهير والشخصيات العامة، سواء كانوا فنانين، أو لاعبى كرة قدم، أو سياسيين، أو رجال مال، أو دعاة. وعندما يتحدث أحد المشاهير على حساباته، فإن الساعى إلى الشهرة لا يفوت الفرصة أبداً، بل يسرع للتفاعل والاستفادة مما تم طرحه، عبر إطلاق الأحكام الحادة واستخدام الألفاظ الجارحة والمخالفة للقانون.
«لا تجعلوا المشاهير حمقى» ليس مجرد «هاشتاج»، لكنه عنوان لسياسة مطلوبة يجب أن يتبناها المستخدمون الذين يحرصون على إدامة مزايا وسائل «التواصل الاجتماعى»، وتعظيمها، والحد من مخاطرها الكارثية.