فى القيعان البعيدة ترسو الثقافة مؤسِّسة ومؤثِرة ودالة طوال الوقت على ما يسرى فى أوصال القضية الفلسطينية، فقيام إسرائيل فى هذا المكان بالذات، وتفضيله على أماكن أخرى كانت مقترحة أمام اليهود مثل الأرجنتين وأوغندا وجزء صغير من روسيا، إنما تم على أساس ثقافى ذى جذر دينى، تحمله نصوص قديمة، ويلهب الأخيلة بتأويلات مفرطة عن «أرض الميعاد»، فضلاً عن رغبة استعمارية فى فصل مشرق العالم العربى عن مغربه.
وحين يتصدى الفلسطينيون لهذه الفكرة فإنهم أيضاً يتوسلون برؤية ثقافية مضادة، تتكئ على استدعاء اللغة التى كانت سائدة فى الزمن القديم، والآثار المتروكة فى المكان من رسوم ونقوش وحفريات، علاوة على الطقوس التى كان يمارسها الناس، والطعام والشراب الذى كانوا يتناولونه، والأزياء التى يرتدونها، وذلك عوضاً عن التاريخ، الذى لم يكن علمه قد قام بعد.
ومع الاستدعاء تنتعش الذاكرة، فتصبح هي فى حد ذاتها مخزناً ثقافيا، ينهل منه الحاضر المعيش الكثير من الحكايات والوقائع التي أنتجتها الأخبار المتلاحقة، وتطل وجوه شخصيات أسهمت فى صناعة الأحداث، عبر أشكال متعددة من النضال والمقاومة، المسلحة والمدنية وحتى بالحيلة والصمت.
وعلى وقع هذه الذاكرة التي تزداد امتلاء، بلا انقطاع، يحدد كثير من الفلسطينيين مواقعهم ومواضعهم الآنية.
فى الوقت نفسه، فإن هذا التضاد فى الاستدعاء أو استعارة الماضي خلق مع الزمن هويتين متصارعتين، لكل منها مركز متماسك، يشد البقية إلى ما يؤمن به، أو يعتقد فيه، لأنه سبب التماسك والاستمرار والبقاء.
وقضية الهوية ثقافية بامتياز، سواء فى المعرفة التي تنطوي عليها، أو القيم التي تخلقها، ثم التوجهات التي تطرحها، ودونها لا يمكن أن نفهم المسار الذى سلكه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
وإلى جانب الذاكرة والهوية يأتى الإدراك الفلسطينى ليرسخ هذا البعد الثقافى.
فلو أننا أجرينا استطلاعَ رأى حول الطريقة التى يفهم بها الفلسطينيون الصراع ضد الإسرائيليين سنجد أن الثقافة موجودة فيه بطرق مختلفة، كامنة وظاهرة، وما بين هذين الحدين من أشكال عديدة.
فأى فلسطينى سيحدثك عن الأرض والأهل والعقيدة الدينية أو الهوية الوطنية، كمحددات رئيسية لفهم الصراع الدائر، فإن استفضت فى نقاشه حول كل هذا ستجد إفاداته تتهادى مغموسة فى الثقافة.
وينطبع كل هذا على مختلف العلوم التى يدرسها الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، فما التاريخ سوى سجل معاناته، وما الجغرافيا سوى المكان الذى عليه أن يتشبث به، وما علم النفس سوى ملء الإرادة بالاستجابة التى تكافئ التحديات، وما الاجتماع سوى الناس الذين يرزحون تحت احتلال يضغط عليهم بقسوة لكنهم لا يستسلمون، وما الاقتصاد سوى إدارة العيش البسيط بما يجعل الناس قادرين على التحمل، والاستمرار فى مخيماتهم وبلداتهم ومدنهم.
أما العلوم السياسية فهى بالنسبة لهم خادمة للقضية، ببعديها المحلى والإقليمي والدولي، وليست شيئاً غير ذلك. ولا يدور علم القانون إلا عن الحقوق المهضومة للشعب الفلسطيني، والواجبات التي على الاحتلال أن يقوم بها.
وحتى النقد الأدبي لا يخلو من استحضار القضية، بشكل دائم، فى ظل استعمال السياقات العامة فى التفسير والتأويل.
ولا تبتعد العلوم الطبيعية من هندسة وكيمياء وفيزياء عن خدمة مشروع المقاومة، كما دلت على ذلك الحرب الأخيرة، التي رأى فيها العالم كله كيف وظفت فصائل المقاومة هذا العلم فى خدمة قدرتها على حفر الأنفاق، وصناعة السلاح، فيما يبقى علم الطب أيضاً حاضراً ليمنع زيادة نسبة الوفيات المبكرة للأطفال، لأنهم المقاومون فى المستقبل، وإطالة عمر العجائز حاملي الحكايات التي تنتقل من جيل إلى جيل.
إن كل هذا يفرض على كل من يقوم بمقاربة للقضية الفلسطينية ألا يُهمل البعد الثقافي فى نظرته أو وصفه أو تحليله، لأن الثقافة ثاوية تحت كل شىء، وسارية فى كل شىء، وستحضر بشدة فى الطريق إلى حل المعضلة فى النهاية.
آخراً وليس أخيراً، لا يمكن النظر إلى هذا البعد الثقافي دون الأخذ فى الاعتبار حالة تعليم الفلسطينيين، لاسيما داخل إسرائيل، حيث يوظف التعليم الرسمي فى التدجين، وفرض ثقافة الصمت، أو يكون آلية إسرائيلية للسيطرة الاجتماعية بدلاً من أن يكون مصدراً للتنمية الاجتماعية والسياسية، وبذا يكون على هؤلاء الفلسطينيين أن يوظفوا المساقات والمسارات الأخرى للتعليم، والتي هي أشبه بـ«مناهج خفية» يقاومون بها توظيف إسرائيل التعليم فى التدجين، ومسخ الهوية.