كان الإمام الخومينى هو من دشن هذا المصطلح فى أوضاع السياسة الإقليمية وهو يعلن قبوله توقيع قرار وقف إطلاق النار مع العراق بعد الحرب الاستنزافية الطويلة التى خاضها مع نظام صدام حسين، وكان بذلك يحاول أن يعبر عن خطوات سياسية قد يُرغَم قائد الدولة على اتخاذها، وتدل بحروفها الموجزة على المأزق ووطأة الضروريات التى قد تحاصر هذا القائد، فقد كان نظام الجمهورية الإسلامية يحلم وسط نشوة انتصاره على نظام الشاه أن تكون الأراضى العراقية وتحديداً نظام صدام البعثى هى محطته التالية، ولم يكن الأمر مجرد حلم عابر بل هو من صلب استراتيجية تأسيس الجمهورية الذى قدمت به نفسها للإقليم أنها جاءت لتحتل وتنشط مواقع النفوذ التى تستند على البعد المذهبى، وبالطبع شكلت العراق محطتها الأولى وراهنت على أن طائفتها الشيعية ستشكل خنجراً فى ظهر صدام حسين وستستقبل أعلام الملالى بالورود، ولأن السيد الخومينى كان حديث عهد بالسياسة الدولية والقراءات الاستراتيجية فلم يدرك أن الإقليم لم يكن جاهزاً بعد لهذه الصفحة، وفضلاً عن كونه لم يقدر قوة النظام والجيش العراقى وقتها فهو أيضاً ظن أن المراكز الدولية صاحبة أجهزة الاستخبارات التى مهدت له الطريق للوصول إلى عرش الطاووس قد تسمح له بتمرير خططه إلى داخل بغداد، ومن ضمن محدودية قراءته للمشهد لم يلتقط أن الهدف الرئيسى لاستدراجه لهذه الحرب كان المقصود منه استنزاف بعض من قوة وثروة الدولة الإيرانية وإزاحتها خطوات إلى الخلف من دون السماح بانهيار التجربة، ولذلك بعد ثمانى سنوات كاملة من الإنفاق العسكرى الباذخ خرجت إيران بالنتيجة المحددة سلفاً من المراكز الدولية «لا غالب ولا مغلوب»، وحينها صرح الخومينى بعد أن تكشفت له بعض من أجزاء الصورة أنه يتجرع السم وهو يوقع على وثيقة نهاية الحرب، ولم تكن هذه الجرعة من السم هى الجرعة الوحيدة التى تعاطاها نظام الخومينى فتلك هى الجرعة المعلنة.. أما جرعات السم الخفى التى تكشفت فيما بعد فقد كانت هى الأهم والأخطر، فقد دأب الجانب الأمريكى على تدريب النظام الإيرانى الجديد على تعاطى السموم اليومية إبان الحرب لتنضبط أداءاته الدولية، فأمريكا فى ذلك التوقيت كانت القوة العالمية التى تمسك بكل الخيوط باقتدار وبقدرة فائقة على اللعب الاستراتيجى مضمون النجاح فى عصر رونالد ريجان الذهبى ومدير مخابراته جورج بوش الأب، ولذلك لقنوا الجانب الإيرانى كيفية التعاطى مع المعلن والمخفى من القول والفعل، فالسلاح الأمريكى الذى كان يحارب به صدام حسين يمكن لإيران أن تحصل على مثيل له، لكن عبر الطرف الإسرائيلى صديق إيران القديم والدائم، وانفجرت بعد سنوات ما عرف بفضيحة «أسلحة الكونترا» التى وصلت إيران وقت الحرب لتنقذها من الهزيمة أمام صدام، فيمكن لإيران أن تملأ العالم ضجيجاً وصراخاً ضد الشيطان الأكبر أمريكا وتهدد بضرب إسرائيل وبتحرير القدس لكنها فى ساعات الليل تتسلل إلى فراشهما مرحَّباً بها ومفهوماً ما تهذى به طوال ساعات النهار.
ما سبق كان أحد نماذج الدروس ومثالاً وحيداً لجرعات السم الاستراتيجى التى أتقنها النظام الإيرانى فيما بعد وبدأ فى فهم أن مخططه التوسعى ما زال الإقليم بحاجة لأكثر من ثلاثة عقود لاستقباله على الأرض، ونشهد بأن إيران قد استوعبت الدرس سريعاً وبدقة وعلمت أن هناك الكثير عليها عمله بالداخل وفى محيطها حتى يكون المسرح مهيأ لاستقبال ما كانت تطرحه، والشهادة أيضاً تضم اعترافاً وتقييماً موضوعياً بأنها قد أحسنت العمل طوال تلك العقود المشار إليها بقدر إمكانياتها التى استثمرتها بأفضل ما يمكن الوصول إليه، الاتفاق النووى الأخير الذى وقعته إيران مع المجتمع الدولى يشكل نقطة ذروة لهذا الماراثون الذى قطعته وهى تقف بارتياح فيها الآن، وسبقها بالطبع مجموعة محطات على الطريق ساعدت فى الوصول إليها أهمها إمساكها بقوة بملفات نفوذ قوية فى أركان الإقليم المهمة، واستقراؤها الجيد لاتجاهات الريح الدولية وكيفية وضع أقدامها فى هذه الاتجاهات مع الجاهزية لدفع تكاليف هذه المواضع بصبر وروية قد تحسد عليهما، لكن طريق الصبر فى النهاية دفعها إلى القول صراحة للمبعوث الدولى الأخضر الإبراهيمى أثناء التعامل مع الأزمة السورية «نحن لسنا دولة مهمة فى الإقليم، نحن الدولة المهمة فيه»، وهنا بالضبط تقف إيران الآن ولديها ما يعضد ويؤكد هذا الموضع الثمين الذى دفعت فى سبيله جهداً وثمناً باهظين.
هذا عن إيران.. لكنها اليوم بالنسبة للإقليم تشكل له الآن جرعة سم قاتلة بدرجات تأثير متفاوتة لكنها موحدة فى التوصيف بالنسبة للكافة، وقد انعكست ضبابية الرؤية التى عانت منها إيران فى البداية لتنتقل للطرف العربى المقابل والذى بدا اليوم فى أكثر أوضاعه البينية تعقيداً وأبرز ما يدل على ذلك ظهور العديد من الدول وكأنها تتلقى مفاجأة بالوصول إلى اتفاق حول ملف إيران النوى، فرغم كل الإرهاصات الجلية التى كانت تنبئ بذلك خلال العامين الماضيين لم تستعد دولة عربية واحدة للتعامل مع هذا المتغير المتوقع، تحركت الدول الرئيسية دولياً وإقليمياً بإيقاع الوقت الضائع واللحظات الأخيرة لكن المقلق أكثر أنه حتى تلك الأخيرة تبدو أن تلك الخيارات التكتيكية تدفع باتجاه لائحة طويلة من السموم.
السعودية تدفع بالتحالف الدولى المشكل لمواجهة «داعش» باتجاه الحلف التركى القطرى للتعامل مع الأزمة السورية وفق هذا الرهان الذى سيستتبع التعاطى مع امتداد خيوطه فى الملفات الأخرى، وأول هذا الامتداد تشكل فى القناة الاستخباراتية التى بدأت مع إخوان اليمن لمحاولة إحداث فارق على تلك الساحة الملغمة، وإن كان التحرك السعودى ينقلب على ثوابت ما اعتمده الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز لكنه يحاول أن يصور لباقى الحلفاء أن هذا التقارب مع الحلف التركى القطرى هو سم إجبارى على المملكة تجرعه، وأن هذه الجرعة هى الترياق الوحيد للمعضلة الإقليمية الذى تتعارض بشدة مع قراءات دول رئيسية مهمة مثل مصر والإمارات، وهناك سموم أخرى عديدة موجودة على مائدة الإقليم تحتاج لوقت ليس بالطويل لانكشافها ليس أقلها انفراط العقد العربى الهش الذى تم اعتماده بعد ثورة 30 يونيو وبداية محاربة الإرهاب.