أدرك العرب الأقدمون في مرحلة مبكرة الوظيفة الاجتماعية للشعر، فكان الشاعر هو ناصح القبيلة، وحكيمها، الذي عركته الأيام، والمدافع عنها، الذي يمنح نسقها الاجتماعي تبريره، وكان الشعر هو ديوان حياتهم، حيث حمل عاداتهم وتقاليدهم، وانطوى على أفراح العرب وأتراحهم.
ومع ذلك، فإنّ النقد العربي صبّ جُل اهتمامه على البنية الداخلية للنصوص الأدبية، على حساب السياق الاجتماعي.
أول كتاب في هذا المضمار، وهو «طبقات الشعراء» لابن سلام (ت 232 هـ) قسم الشعراء على أساس الزمان والمكان، متناولا إنتاجهم على أساس «التذوق الحسي»، ثم جاء ابن قتيبة (ت 276 هـ) فرفض في كتابه «الشعر والشعراء» ترتيب الشعراء على أساس غزارة الإنتاج أو الزمن.
وابتعد عبدالعزيز الجرجاني (ت 290 هـ) في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» عن التعميمات، وحاول استخلاص نتائجه عن طريق الاستقراء، ممهدا بذلك الطريق أمام تحول النقد الأدبي إلى شيء أقرب للبلاغة، حتى جاء أبوهلال العسكري، ليجعله في كتابه «سر الصناعتين» بلاغة صرفة.
وأخذ الثعالبي في كتابه «يتيمة الدهر» النقد في طريق قريب نسبيا من دراسة علاقة النص الشعري بسياقه الاجتماعي، حين ربط شعر المتنبي بأخبار الشاعر وأحواله.
وقدّم عبدالقاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري تجربة نقدية ناضجة، حين قاوم تيار الصنعة اللفظية، ونادى بأن الألفاظ خدم للمعاني، وفطن إلى أنّ اللغة ليست مجموعة من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات، كما فطن إلى الأساس الإشاري الذي يحدد العلاقة بين الدال والمدلول، وبذلك يكون قد وصل إلى مناطق قريبة من تلك التي وصل إليها علم اللغة في القرن العشرين بأوروبا، على يد سوسير.
وقد كان لابن خلدون إسهاما ملموسا في هذا المضمار، من خلال حديثه عن الأدب، الذي أطلق عليه اسم «علم المعاني» أو «علم البيان»، معرفا إياه بقوله: «هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فنى المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم».
وتتلخص الرؤية الاجتماعية التي حددها ابن خلدون للأدب في أمرين أساسيين، الأول هو ضرورة أن يكون الشعر مفهوما للناس، بحيث يؤدي وظيفته على أكمل وجه، وهنا يقول: «لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن.. الكلام الذي هو العبارة والخطاب إنما سره وروحه في إفادة المعنى، وأما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به».
وتعود رغبة ابن خلدون في أن يكون الشعر مفهوما إلى إيمانه بأن الشعر هو ديوان العرب «فيه علومهم وأخبارهم وحكمتهم، وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده».
أما الثاني فهو «اختلاف اللسان باختلاف المكان»، وهو ما يتبين من قوله: «أعلم أنّ الأذواق في معرفة البلاغة منها كلها إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها، ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية، فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل أحد منهم مدرك بلاغة لغته، وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته».
لكن الجهود المبذولة في سبيل كشف الجوانب الاجتماعية في النقد الأدبي العربي القديم لا تزال قاصرة، وتتم على استحياء شديد. فضلا عن ذلك فإن هذه الدراسات العربية، على كثرتها وتنوعها، قاصرة إذا تم النظر إليها من زاوية الدور الذي يلعبه الأدب في تشكيل القيم الاجتماعية والوعي السياسي.
كما أن هذه الدراسات هي في الحقيقة بنت النقد الأدبي وليس علم الاجتماع الذي يبدو هنا الأقدر على تناول هذا الموضوع المهم الذي ينصب في إطار المحاولات التي تُبذل في سبيل كشف الجوانب الاجتماعية في تناول «النقاد» العرب في القرون التي خلت لما أنتجته قرائح مبدعيهم من قصائد شعرية ونصوص نثرية.