ما يحدث في سوريا لا يمكن اعتباره ثورة محدودة أو انقلابا، بل هو ربما أقرب إلى أن يكون إعادة تشكيل سوريا وإعادة بنائها ورسم خارطة مستقبل تموضعها الإقليمي وعلاقاتها الدولية، ولربما يشير هذا إلى تلك الشبكة الضخمة والمعقدة من المهام التي على المعارضة السورية التصدي لها بالقدر المطلوب من الحكمة والحذر الشديد إذا ما أرادت أن تنتهي هذه المرحلة الانتقالية، التي ستكون طويلة حتما، نهاية تليق على الأقل بماضي سوريا وذخيرتها الاستراتيجية والسياسية والثقافية وموقعها الجيوسياسي في قلب المنطقة العربية.
فيما يتعلق بالداخل السوري، فإنّه من المبكر التنبؤ بالأولويات التي ستحكم عمل المعارضة، لكن المؤشرات الأولية، وبناء على معطيات مسارها، تقودنا إلى استنتاج مفاده أنّ هناك اتجاهين داخل صفوف المعارضة، الأول يشدد على ضرورة بسط السيطرة على كل الأراضي السورية قبل الشروع في الإجراءات الخاصة ببرنامج إعادة تشكيل الحكم والتحضير للانتخابات، وهذا يعني أنّ أمام المعارضة معارك ضارية ستخوضها ضد خصمين رئيسيين أولهما سكان المناطق الساحلية (شمال غرب سوريا) وهم معظمهم من العلويين أو من بعض الأقليات التي كانت متحالفة أو صديقة لنظام بشار الأسد المنهار، وثانيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على منطقة الجزيرة التي يحدها غربا نهر الفرات وشمالا الحدود التركية وشرقا الحدود العراقية، وتكمن الصعوبة في مواجهة هذا الخصم لأن الولايات المتحدة الأمريكية تتحالف معه وتدعمه بالسلاح والمال والغطاء السياسي والعسكري، لكن المعارضة قد تستفيد من الحافز المغري لتركيا الراغبة بشدة في إنهاء وجود قوات سوريا الديمقراطية، واقتلاع فكرة إنشاء دولة مستقلة للأكراد في تلك المنطقة.
أما الاتجاه الثاني فيعتقد أنّ بناء نظام ديمقراطي تفضي إليه انتخابات نزيهة بإشراف الأمم المتحدة سوف يذلل هذه المصاعب جميعها وقد تكون المعارضة غير مضطرة لفرض السيطرة بالسلاح، خاصة إذا ما وجدت الأقلية العلوية في الغرب والكردية في الشرق أنّ النظام السياسي الجديد مفتوح أمامها للمشاركة الجادة ضمن إطار سوريا الموحدة.
غير أن الانقسامات داخل المعارضة لا تتوقف عند هذين الاتجاهين فقط، وفي الحقيقة فإنّ تشكيلات المعارضة العديدة والمتنوعة وإن كانت قد اتحدت واتفقت على العداء لبشار الأسد، فإنّها تبدو متعارضة فيما بينها حول كل الشؤون الداخلية والخارجية المتعلقة بسوريا، فهناك خلافات واسعة حول المدى الذي سيذهب إليه النظام الجديد في علمنة الدولة، وفصل تشريعاتها وقوانينها عن الدين، وما سيفرضه هذا من مساحة أكبر للأقليات سواء في إطار إدارة شؤونها الاجتماعية وفق مذاهبها الخاصة أو ما تعلق منها باللامركزية الجهوية التي تتيح لتلك الأقليات إدارة مناطقها بنوع من الاستقلالية النسبية في إطار النظام الجديد، ومن المؤكد أنّ أطراف المعارضة التي تجاوزت خلافاتها العقائدية البنيوية في سبيل الاتحاد لإسقاط النظام، ربما لن يكون لديها الدافع الكافي للتساهل مع بعضها بعد أن سقط النظام، وفي الحقيقة فإنّ التأمل في خارطة هذه الأطراف يشير إلى مدى صعوبة مهمة الاستمرار في توحيدها فى المستقبل، فبعضها إسلامي متشدد، وبعضها الآخر إسلامي معتدل، يقتدي بالنموذج التركي، وبعضها في اتجاه قومي عروبي، وهناك أيضا الحركات اليسارية التي كانت قد سبقت الإسلاميين بمعاداة النظام والسعي إلى إسقاطه.
ورغم كل ذلك يبقى هناك بصيص من الأمل يتمثل في أنّ الاتجاه الغالب في المعارضة الآن يقتدي بالنموذج التركي، ويستمع بانتباه للنصائح التركية، باعتبار أنّ هذا الاتجاه قد تنصل منه حلفاؤه العرب واحدا تلو الآخر، ولم يبق من حليف سانده سياسيا أو عسكريا سوى تركيا، وإذا تمكن هذا الاتجاه من طرح استراتيجية عقلانية وأعطى الضمانات الضرورية لمشاركة الجميع دونما نبذ أو إقصاء لأي أحد، فمن الممكن أن تنقل أطراف المعارضة خلافاتها من الميدان والفضاء الإعلامي إلى صناديق الانتخابات، ما قد يؤشر إلى مستقبل أفضل لسوريا من كل النواحي.
أما على الصعيد الخارجي فلا تقل الأمور صعوبة، لأن أمام النظام الجديد مهمات حساسة وخطيرة تتعلق بالموقف من روسيا وقواعدها العسكرية، وإيران ونفوذها في الوسط العلوى، وحزب الله والعداوة المتجذرة معه، وأخيرا إسرائيل والموقف الغامض والملتبس إزاءها! وبطبيعة الحال فإنّ أي خطأ في الحسابات هنا يعني استعداء طرف دولي أو إقليمي قوي، وجره إلى التدخل المباشر أو غير المباشر في الشأن السوري، ليضع المزيد من العراقيل أمام الإدارة الجديدة، ما قد يطيل الفترة الانتقالية، بل وربما يدفع بسوريا كلها إلى ما يشبه النموذج الليبي الذي سيكون أكثر خطورة عشرات المرات في بلد مثل سوريا التي تشكل مسرحا شديد الأهمية للصراعات الإقليمية والدولية.
منذ أن كتب البريطاني «باتريك سيل» كتابه الشهير «الصراع على سوريا» في الخمسينيات من القرن الماضي، كان من الواضح أنّ هذا الرجل يمتلك بصيرة ثاقبة ورؤية لا تخطئ هدفها في تشخيص الواقع السوري ومستويات التدخل الإقليمي والدولي فيه، والصراع العلني أحيانا والمكتوم أحيانا أخرى على السيطرة عليه، وإذا ما كان نظام الأسد قد أبلى جيدا في كتم التناقضات الداخلية ودهاليز العلاقات الخارجية، فإنه قد حان الوقت لكي تخرج تلك النفايات كلها إلى الهواء الطلق لتكشف عن واقع مأزوم، لا بد من جهد وإرادة قوية وثابتة وطويلة المدى للخروج منه.