فى وسط أمل ودوافع وبواعث وأسباب وظروف شتى يولد العقل المتسامح، وهو نوع من العقول، تظل الحياة في حاجة ماسة إليه، رغم ما يُقال عن أنّ التسامح يعني أنّ طرفا يضع نفسه فوق طرف ثم يسامحه، فيجعل من وضعه وأفكاره وقيمه هو معيار حكم على «الآخر».
في الحقيقة لا يمكننا أن ننزع أبدا الميل البشري الطبيعي إلى تعظيم الذات، أو على الأقل الانحياز إلى ما ينفعها، فهذا شيء مجبولة عليه النفوس، ومركوز فيها، لكن يمكن -بالتتابع- أن يتعلم العقل الإنساني كيف يؤمن بالتعدّد داخل المجتمع الواحد، بل داخل الجماعة الواحدة، رئيسية كانت أو ثانوية، ويعتقد برسوخ في أهمية الانفتاح على الآخر، وكيف أنّ في هذا خيرا عميما، فبهذا العقل يمكن كبح الكثير من النوازع النفسية غير السوية، التي تدفع إلى الاعتداء على وجود الآخرين، وحقوقهم.
ولهذا العقل سمات أو خصائص تُستخلص، ليس فقط من الأدبيات التي تحدّثت عن قضية «التسامح»، وإنما أيضا من تجارب الأفراد والأمم معه على أرض الواقع، يمكن أن تكون على النحو التالي:
1 - عقل متفتح: لا ينغلق على فهم، ثم يثق وهما في أنّه الحقيقة الدامغة النهائية، وإنّما يستجيب لكل نداء يدله عليها، باحثا عنها، عند الآخرين، دون أن يفتئت على ما لديهم، بل يحترمه، ويحترم حقهم في البحث عن الحقيقة، وكل جهد يبذلونه في سبيل الاقتراب منها.
2 - عقل يؤمن بالتعدّد: فلا تسامح دون فهم للاختلاف، وإدراك لطبيعته، وكونه سنة حياتية، بلا مراء، ولا مجاملة، ولا التواء. وهذا النوع من الإدراك يمنح صاحبه قدرة على التعامل مع غيره، باعتباره مكملا له، وليس متصارعا معه.
3 - عقل هادئ: ينظر إلى ما يُطرح أمامه من آراء، وما يُبدى من تصرفات، في هدوء ورويّة. إنه العقل البارد، كما يُطلق عليه مجازا، حيث يعطي صاحبه فرصة للإنصات إلى الآخرين، والصبر عليهم، والتماس الأعذار لهم، وحمل آرائهم على الوجه الحسن.
4 - عقل يفهم المصلحة: حيث لا يضع الخاصة منها في وجه العامة، وإنما يرى الأولى جزءا من الثانية، أو نابعة منها، ومتوافقة معها. وهذا الموقف يخفّف حدة الصراع مع الآخرين، ويقلّل التعصّب، ويدفع إلى المشاركة في صنع «النفع العام»، بما يوفر الجانب المادي المطلوب المفضي إلى التسامح.
5 - عقل مرن: فهو لديه القدرة على الانتقال من بديل إلى آخر، تاركا المعطوب إلى السليم، والخاسر إلى الناجح، مدركا أنّ أي مسار عفي للحياة لا يمكن أن تنعدم فيه أمام الفرد الخيارات، وأمام الجماعة البدائل.
إن هذه السمات الخمس لا تُكتسب في يُسر، ولا تتأتى دون جهد، وإنما تكون حصيلة سنوات طويلة من الفهم والإدراك وتراكم التجارب، وتوالي الملمات، التي يتعلم منها الإنسان أنّ التسامح ضرورة له ولمجتمعه، وبالتتابع يصل إلى ذهنه أيضا، ويرسخ فيه، تصور يمنعه من النظر إلى أحد من علٍ، إنما يمد يده إليه ليساعده، كي يسيرا معا، كتفا بكتف، وفهما بفهم، حتى يحقّقا لنفسيهما الرضاء، وللمجتمع السكينة.