هناك تصور غالب، متعجل واستعلائى، بل أعمى، أو على الأقل أعور، يعتقد أصحابه أن الثقافة تسرى من أعلى إلى أسفل، أو هكذا يجب أن تكون، حيث تنتجها النخبة، ويتلقاها عموم الناس، على تفاوت إمكانياتهم، فيعلون من قدر الذين صدَّروها إليهم، باعتبارهم صانعى معرفة، وقادة رأى، أو حكماء دائمين، يسعى كل منهم لأن يكون له جمهوره، الذى يعرفه ويتابعه ويتأثر به.
وقاوم المختصون فى الثقافة الشعبية هذا التصور طويلاً، رافضين التسليم به، وطرحوا الكثير من العلامات والدلائل على أن الفهم والوعى لا يهبط من أعلى إلى أسفل فقط، بل يصعد من أسفل إلى أعلى أيضاً، وبين الحدين والقطبين والمكانين أو النقطتين المتقابلتين نظرياً، هناك دوماً أخذ ورد، وشد وجذب، ينتهى فى الواقع بتفاعل خلاق، أو تغذية مرتدة، بحيث تؤثر ثقافة النخبة فى العامة، وتؤثر ثقافة العموم فى أهل الصفوة، ويتفاعل الاثنان فيصنعان أنماطاً متنوعة من الفنون والآداب والأفكار والمعانى.
وبذا فإن أسفل وأعلى فى قضية الثقافة هنا، لا يُقصد به ترتيب فى المكانة أو الأهمية، إنما وصف لهرم ثقافى قاعدته العريضة تتمثل فى ما تنتجه القريحة الشعبية من أساطير وحكايات ونوادر ونكات وأغنيات وعديد وحكم وأمثلة.. إلخ، وهو غزير وكثير، وأسهم فى بلورته جمهور عريض، جيلاً بعد جيل، أما القمة فتشمل مثقفى النخبة، وهم قلة القلة قياساً إلى عدد من صنعت قرائحهم ومخيلاتهم وألسنتهم الثقافة الشعبية على اختلاف أنواعها.
وسعى بعض الباحثين المختصين فى الدراسات الشعبية إلى إنهاء الهوة بين الشعبوى والنخبوى، والتعامل مع نصوص النوعين، باعتبارهما أدباً متكاملاً، وليس متصارعاً، أو متتابعاً، فى أفضلية للثانى على الأول، إذ إن الموروث الشعبى العربى للأقدمين والمحدثين والمعاصرين هو من الثراء بمكان إلى درجة أن يهتم به المستشرقون ومفكرو عصر النهضة فى العالم العربى، ويترسّخ الاقتناع بدوره بمرور الوقت، حتى صار تأثيره على أدب النخبة ومنتجها الثقافى بعمومه، أمراً ظاهراً عياناً بياناً، كما يقول خالد أبوالليل، لاسيما مع الجهد الذى بُذل فى جمع الفلكلور، والتنظير له، ووضع القواميس والموسوعات الخاصة به.
وقد زاد الاهتمام بالفلكلور، ليس فى الأوساط الأكاديمية وحدها، وإنما أيضاً بين المثقفين، وتتابعت قواميسه ومعاجمه عن العادات والتقاليد والاعتقادات والطقوس والأغانى والحكايات والسير والألغاز والأمثال والحرف والصناعات والمعارف الشعبية، وأسهم فى كل هذا علماء ورواة وهواة، فوفروا للنخبة مادة ثرية، علاوة على ما يحل فى رأس كل منهم على حدة، نتيجة تعرّضه مباشرة للمأثور الشعبى فى البيئة الاجتماعية المحلية التى وُلد وعاش فيها، مثلما يحدث للأدباء والفنانين المنحدرين من أصول ريفية.
إن المعرفة ليست حبيسة سطور الكتب فقط، وإنما أيضاً تجرى على الألسنة فى كل مكان وزمان، وتغذيها القرائح الشعبية بما تُحصّله من معرفة تتوالد مع الخبرة، ومعاركة الشروط القاسية للحياة، والرغبة الدائمة فى التعلم والارتقاء، وربما تخلقها حالات من كسب القوت والاستعراض والفرجة، كما نرى فى الفرق الفنية الشعبية.
وينسى الذين يعتقدون أن الثقافة صناعة الصفوة، أن هناك «نخبة شعبية» أيضاً، فلكل فئة أو شريحة أو حتى مهنة نخبتها، وبذا يكون من حق العموم، وهم الأغلبية الكاسحة، أن ينتجوا من بينهم، وبشروطهم الأشكال الثقافية التى يعبر عنها أناس من بينهم. كما أن من بين هذه الصفوة من تخصّص فى الدراسات الشعبية، ومشى فى مناكبها، وأخرج منها جواهر نفيسة، ومنهم من ساهم، خلال زمن مضى فى صياغة الأساطير والملامح، وإن كانت الطبقة الشعبية قد صنعت لها روايات متعدّدة.