الثقافة الشعبية هى فى حد ذاتها أحد روافد الثقافة العامة، فمن هذا المثقف النخبوى الذى هبط من السماء، أو ولد فى غابة، أو عاش فى كهف معزول، أو برج عاجى، ولم يسمع موالاً أو مثلاً أو أغنية شعبية، أو لم يتابع واحدة من السير الهائلة كسيرة بنى هلال، وسيف بن ذى يزن، والزير سالم، وحمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة، وعلى الزيبق، والظاهر بيبرس، وعنترة بن شداد.. إلخ، ويتأثر بأبطالها الإشكاليين، الذين يصنعون أفعالاً عظيمة، ويرسخون قيماً مفيدة، ويلهبون الخيال بالأساطير، ومن لم يسمع عن مبالغات وشطحات عدة عن كرامات الأولياء والقديسين؟
ولعل النموذج الأبهى والأعمق، فى هذا المضمار، هو نص «ألف ليلة وليلة» العجائبى والغرائبى، لأنه هو المثل المكتمل للأدب الشعبى، نظراً لكونه كتاباً «تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته، وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته، فأبرزت مميزات الأدب الشعبى ومعالمه وصفاته بصورة جلية واضحة»، كما يقول فتحى أبوبكر فى تقديمه لطبعة الكتاب الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. وقد تماهى هذا النص الباذخ فى مخيلات وأذهان تتابع عبر الزمن، وتأثر به أدباء وفنانون فى الشرق والغرب.إن القريحة الشعبية هى جزء أصيل من العقل الجمعى لأى أمة، وهى جانب مهم من التعبير عن وجودها وهويتها، ولا جدال فى هذا، ولو لم تكن تؤدى هذا الدور، وتحمل فى باطنها الكثير من المعانى العميقة، وتحفل بالجماليات الظاهرة، والتأثير الواسع، ما كان يمكنها أن تلهم النخبة الثقافية نفسها، وتمدها بموضوعات وأفكار للكتابة، وهى مسألة لاقت رواجاً أكثر مع تعاظم الحيز الذى تشغله مواقع التواصل الاجتماعى الإلكترونية من الإعلام، والتثقيف، حتى لو كان سريعاً عابراً.
ونحن نعرف جميعاً أن فضل الحكايات والملاحم والأساطير الشعبية على ثقافة الصفوة لا يمكن نكرانه، لكن قليلاً ما تم حصر هذا، أو الإلمام بجانب عريض منه، حتى نقف على ما حقيقة ما قدمه الشعبويون للصفوة، رغم وجود الكثير من الموسوعات حول الموروث الشعبى فى البلاد العربية.
فالبحث العلمى فى هذه الناحية لم يلحق بكل هذا التأثير، لأنه أوسع من أن يتم تتبعه بدقة، كما أن كثيراً منه يؤثر بشكل غير مباشر، عبر التناص أو إلهاب المخيلات أو منح العمق الفنى والإنسانى، أو تغذية أساليب السرد، أو إهداء موضوعات وأفكار للكتابة.
وإذا قمنا بالنظر إلى ما تم من محاولات جرد الآثار المباشرة للمأثور الشعبى على أدب النخبة، يمكن أن نتوقف أمام عمل مهم عنوانه «ببلوجرافيا شارحة للمسرحيات العربية المتحولة عن السير الشعبية» أعدها د. عبدالكريم الحجراوى، تتبع مؤلفه كل المسرحيات التى كتبها أدباء من الصفوة، وتم تنفيذ أغلبها على خشبات المسرح، ولبت، فى جانب منها، الدعوات التى أطلقها مسرحيون كبار عن ضرورة إبداع اتجاه عربى فى المسرح، مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعبدالكريم برشيد وغيرهم.
وتناولت الببلوجرافيا ثلاثة أساليب لهذا التحول، أولها هو النهل من الحكايات الشعبية العربية، كألف ليلة وليلة، والأراجوز، وخيال الظل، والسير، وثانيها يقوم على استلهام الحكايات التاريخية التى تم تداولها فى مختلف الحضارات التى شهدتها المنطقة العربية عبر آلاف السنين، وثالثها هو تعريب بعض النصوص المسرحية الغربية وإعطاؤها نكهتنا الشعبية.