لست فى حاجة إلى التأكيد على أن المؤسسة العسكرية قامت بإنجاز عظيم بإنشاء قناة السويس الجديدة فى هذا الزمن القياسى، ولا إلى التأكيد على مدى الفوائد الكبيرة التى سوف تعود على مصر جراء هذا المشروع، ولا إلى التأكيد على حق الشعب المصرى فى أن يفرح بهذا الإنجاز، خاصة فى ظل مناخ صعب وضاغط ومحبط، وأن يزهو ويفخر بمؤسسته العسكرية، فهو واجب عليه كما أنه حق للمؤسسة.. لكن علينا -كشعب- ألا ننسى أننا نعانى من تسيب، وإهمال، وعشوائية، وارتجالية، ورشوة، وفساد.. وهذا كله تسبب -ولا يزال- فى حدوث مصائب وكوارث لا أول لها ولا آخر.. لا أريد أن نستغل الفرحة فى ستر عيوبنا والتغطية على التشوهات التى أصابت عقولنا ونفوسنا وأفئدتنا وأخلاقنا وسلوكنا وأداءنا، ولا أن نبدو كما المثل القائل: «القرعة تتباهى بشعر بنت أختها».. لا أريد أن تسكرنا الفرحة، فنغفل عن همومنا وأحزاننا وعن حقيقة أوضاعنا المأساوية والكارثية، وأننا فى أمس الحاجة إلى بذل جهود جبارة للنهوض والتقدم فى كل المجالات.. لا شك أن منا من فرح حقيقة، ومنا من فرح إغاظة وكيداً فى آخرين، ومنا من فرح مسايرة للفرحين حتى لا يكون نشازاً..
والسؤال هو: هل من الممكن أن نحقق فى المستقبل القريب إنجازات كبرى كما فعلت -وتفعل- المؤسسة العسكرية، وأن نستلهم من هذا الإنجاز نموذجاً ومثالاً نحتذى به فى كل أمورنا حتى نتمكن من بلوغ النهضة التى نرجوها؟!
بمعنى آخر، هل من الممكن أن تسرى روح الانضباط والهمة والعزم والإرادة التى تتمتع بها المؤسسة العسكرية إلى مؤسساتنا المدنية؟ قد يقول قائل: ولم لا، إن المؤسسة العسكرية ليست وافدة علينا ولا هى تمثل تجمعاً غريباً عنا، أو منهجاً مستحيلاً أو صعباً بحيث لا يمكن استنساخه.. بل هى من هذا الشعب، قلباً وقالباً، جوهراً ومظهراً، ومن ثم ليس بمستحيل على الشعب أو مؤسساته المدنية أن تكتسب قدراتها وتتحلى بصفاتها..
مرة أخرى نقول: إن هناك مهام جساماً تنتظرنا، فهل نحن على استعداد أن نرقى إلى مستوى التحدى، أم أننا سوف نلقى بها على أكتاف المؤسسة العسكرية، ونكتفى بالدعاء لها و«الفرجة» عليها والتهليل لها؟ هذا هو السؤال.. إن شعباً قام بثورتين عظيمتين فى أقل من ثلاثة أعلام، لهو قادر على أن يصنع المعجزات، وأن يكون عند حسن الظن به.. نعم، هناك مثبطات كثيرة ومعوقات لا تنتهى، لكن يجب عليه ألا يستسلم لها.. نعم، هناك من يتمنى له الفشل ويعمل بإصرار على تشتيت جهوده ومنع قواه من أن تتكاتف وتتضافر، لكن يجب عليه ألا يلتفت إليه، ولا يدعه يفت فى عضده أو ينال من عزيمته، وأن يمضى فى طريقه غير عابئ به.. عليه أن يؤمن بأن «من جد وجد»، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه سبحانه يحب من يتقن عمله.. لا بد من الثقة بالنفس، والإيمان بقدرتنا على النهوض، واليقين من تحقيق التقدم.. نعلم يقيناً أنه لا بد من ركوب الصعب.. ونعلم أن «من لم يتعلم صعود الجبال ** يعش أبد الدهر بين السفوح»، كما قال «الشابى»، شاعر تونس العظيم.. نحن لسنا أقل من شعوب أخرى بنت مجدها بسواعدها، وحفرت فى الصخر حضارتها بأظافرها.
لتكن قناة السويس الجديدة إذن هى نقطة الانطلاق، أو البداية الحقيقية لبناء مصر التى نريدها ونرجوها، عظمة وعلواً وشموخاً.. لا نريد لحرارة الشعور بالإنجاز الكبير أن تبرد أو تتراجع.. وعلى الشعب أن يكون يقظاً ومنتبهاً وواعياً، فلا يدع أحداً يسلبه همته وعزيمته.. سوف يجد كثيراً من المداهنين والانتهازيين والطفيليين يريدون ركوب الموجة، وتسلق السفينة وتوجيهها لتحقيق مآربهم الذاتية.. هؤلاء معروفون بأنهم يأكلون على كل الموائد، ويتحلقون حول كل رئيس.. على الشعب ألا ينخدع بهم أو يغفل عنهم، بل عليه أن يحذرهم ويحذر منهم.. نعم، هم ناعمون، ربما أنعم من جلد الثعبان وشفرة الموسى، هم بطانة السوء، يقولون ما لا يفعلون ويظهرون غير ما يبطنون.
من ناحية أخرى، على الشعب أن يوقن أنه لن يستطيع أن يحقق إنجازاً، كبيراً كان أم صغيراً، ما لم يعالج عيوبه ويتخلص من آفاته.. فقط يحتاج الأمر إلى إرادة، وقديماً قالوا: «إن صح منك الهوى ** أرشدت للحيل».. نريد خطة ممنهجة للعلاج لها بداية ونهاية، لها وسائلها وأدواتها، ولها رجالها الذين يشرفون عليها ويتابعونها فى كل المجالات والميادين؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. هذه هى مهمة رئيس الدولة فى المقام الأول.. إن هذه المرحلة هى مرحلة الجد والهمة والعزم.. لا نريد عبثاً أو هزلاً أو تراخياً أو تواكلاً.. من يريد أن يعمل أو يسهم فى البناء، فأهلاً به وسهلاً، بل هو فى عيوننا وعلى رؤوسنا، وله أجره الذى يستحقه، ومن قبل ذلك وبعده الاحترام والتقدير.. ومن يريد غير ذلك، فلا أهلاً به ولا سهلاً، ولا مكان له بين الأوفياء الصادقين، وليس له إلا الازدراء والاحتقار الذى يستحقه.
إن الفرحة التى عمت أرجاء مصر بافتتاح قناة السويس الجديدة وما سوف تجره من خير، لمصر والعالم، هى رسالة واضحة إلى الدول والشعوب الأخرى، بأن الشعب المصرى ملتف حول قيادته، مطمئن إليها، وثقته بقدرتها على العبور به إلى بر الأمان ليس لها حدود، وإن الشائعات التى يبثها ويرددها المغرضون، والتى تستهدف زعزعة أمنه واستقراره، لن تحقق أغراضها وسوف تتحطم على صخرة الواقع.. هى رسالة أيضاً بأن مصر -الشعب والوطن- هى أمل الأمة العربية ورائدة نهضتها، وأنها «رمانة الميزان» لدول المنطقة، ومن إراد إعاقتها عن القيام بدورها تجاه نفسها وتجاه أمتها، سوف تبوء محاولاته بالفشل.