«حبيبة» طفلة فى السابعة من عمرها، واحدة من المصابين فى مذبحة الأطفال تحت عجلات قطار «أسيوط»، ترقد الآن فى المستشفى الجامعى بالمحافظة، لا يوجد فى جسدها الضعيف جزء إلا وفيه ضربة كسر أو رشقة كدمة، يقول طبيبها: «إن أقل كسر فيها يجعل الكبير يبكى من الألم»، ومع ذلك ترقد «حبيبة» راضية مطمئنة، تتلو آيات كريمة من سورة النجم، وتعقبها بآيات من سورة «المؤمنون»، وما إن تتوقف عن التلاوة، حتى تسأل عن صديقتها «أروى» التى استشهدت فى الحادث.
آه يا «حبيبة».. إنك تخلعين قلبى من صدرى.. لقد كشفت، بصمتك الصابر وتلاوتك المؤمنة، بشاعة هذا البلد، شعباً وحكومة ونُخباً مثقفة وقوى سياسية.. وضعتِنا جميعاً أمام المرآة لنرى أقبح ما فينا: نفوسنا الجبانة، وقلوبنا الفاسدة، وإيماننا الزائف، وإهمالنا المقيت.. بصّرنا صمتك الصامد وإيمانك الراسخ بأكاليل العار التى حملناها فوق رؤوسنا، عندما سمحنا عبر سنين طويلة، يوم أن كنت هناك فى رحم الغيب، بأن تفسد الأمور فى هذا البلد حتى تصل إلى هذا الحد، لنتركك فريسة سهلة لقطار جامح، وسائق أتوبيس شارد، وعامل مزلقان نائم، ورئيس وزراء يبكى على طفل فى غزة، ليحقق نصراً سياسياً، ولا يدمى قلبه لطفل مصرى من نبت هذه الأرض، ورئيس دولة يتراقص قلبه طرباً على هتافات «إخوانه»، وهو يصرخ محذراً إسرائيل من غضبة المصريين، المصريين الذين يقتلون تحت عجلات القطار، وتعربد فى أجسادهم الأغذية الملوثة، ويجرى فى عروقهم الماء الآسن، ويفسد عقولهم تعليم وإعلام المرتزقة، ويفسد دينهم تجار الدين.
هؤلاء جميعاً يا ابنتى ثمرة سكاتنا، عبر سنين طويلة، رضينا فيها بأن تصل الأمور إلى هذا المنحدر، وأن يكون لدينا بشر بهذه الجبلة، كل هذه الظواهر المؤلمة والكائنات البشرية الهلامية هى نتاج سكاتنا. قد يكون من بيننا من قاوم بالكلام، لكن حتى هؤلاء -وأنا منهم- كنا شركاء، كان علينا يا «حبيبة» أن نثور مباشرة فى وجه الظلم، حتى لا نترك فرصة للفساد لكى يستفحل إلى هذا الحد. نعم شاركنا فى الثورة حتى أطحنا برأس الأفعى، لكننا ظلمناك، حين استجبنا لدعوات عدم الاستمرار حتى نقتلع جذور الظلم والفساد من هذا البلد، ظلمناك، حين تركنا النفوس الحالمة بكراسى الحكم - وليس برفع الظلم- تصل إلى السلطة بعد الثورة، بسكاتنا وجبننا عن مواجهة العسكر والإخوان الذين باعوا ثورتنا فى سوق نخاسة الفلول. عذرى الوحيد يا ابنتى أننى حاولت قدر ما أستطيع؛ لكننى لن أسامح نفسى على تخاذلى عن إجبارها عن أن تفعل أكثر.أعلم يا حبيبتى أن قلبك البرىء ونفسك المؤمنة قادران على الصفح عنى.. سامحينى.. وليرحم الله الجميع!